هناك في الجنوب البيروتي، لا تحتاج إلى خارطة كي تعرف أين تبدأ الضاحية وأين تنتهي؛ فحدودها تُرسم بالهيبة، وتُضيء بريقَها مآذن تصهل كأجنحة بيضاء، وتتشابك أبنيتها الشامخة كأعمدة نور ترفع المدينة نحو سماءٍ تعرف أهلها واحداً واحداً.
هي الضاحية… ضاحية الكرامة، التي لا تُقرأ بل تُحسّ، ولا تُزار بل يُؤتى إليها كمن يدخل إلى سفح جبل مقدّس.
تمشي في شوارعها، فيأخذك العجب من ذلك العزم الذي يفيض من الأرصفة، كأن كل حجر فيها قد توضّأ بدموع الأمهات، وكأن كل جدار ينطق بالحياة التي عبرت منه نحو الخلود. شوارع تعبق عزاً وفخراً… شوارع ليست شوارع، بل ممرات تعبر عليها ذاكرة وطنٍ تعلّم أن يقف.
هنا أبنية ليست حجارة فقط، بل قلاع من إيمانٍ مكثّف، تقف مثل حراسٍ ربّانيين، تشهد أنّ هذه الأرض لا تُخضع ظهرها إلا لله.
وفي الحيّ الواحد، ترى المسجد يعانق الحسينية، كزوجين يتبادلان نوراً واحداً؛ كلاهما يربّي شباباً وُلدوا من صلب التقى، وكبروا على أن حافة السماء يمكن بلوغها بالموقف، وأن الجهاد ليس سلاحاً فقط، بل فكرة تولد في القلب قبل أن تظهر في اليد.
وكلّما خطوت خطوة، يطلّ عليك شهيد…
قبله شهيد…
وبعده شهيد…
كأن الضاحية تقف على كفٍّ من ضوء، وكأن الشهادة فيها ليست موتاً، بل امتدادٌ طبيعيّ للحياة.
وحين تدخل روضة الشهيدين، يتحوّل الهواء إلى صلاة.
تتساءل من أين تبدأ زيارة القمم؟ فمن أي جبل يبدأ المسافر؟
هنا كل قبر رواية، وكل اسم سطرٌ مكتوب بحبر من سماء.
تتلفّت حائراً بين عظمةٍ تسكن التراب، ودموعٍ تسكن العين، وكأن الروضة مرآة يرى الزائر فيها صورته الروحية قبل أن يرى أسماء الشهداء.
ثم تمضي…
تخرج من الروضة وقد صارت روحك أثقل بشيء يشبه اليقين، وتتوجه نحو البقعة التي تتقاطع عندها الأرض بالسماء: مرقد قداسة العشق، النور الإلهي الذي بقي حيّاً حتى وهو شهيد.
تتثاقل قدماك عند أبواب الضريح، ليس تعباً، بل خشوعاً، وكأنك تقترب من مسافةٍ غير قابلة للقياس.
تتسارع أنفاسك…
وتشمّ رائحة لا تشبه روائح الدنيا؛ رائحة حدّثك عنها القرآن: ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.
ولا تدري كيف وجدت نفسك تنحني احتراماً؛ فهنا رجلٌ بكته السماء قبل الأرض، وهنا مكانٌ يحسّ فيه الداخل كأنه في ازدحام ملائكة، تلامس أطراف أجنحتها أطراف روحك، وتوشوش أذنك تسبيحات خفيّة يرددها المؤمنون بخشوعٍ يجعل الكون أصغر من قلب إنسان.
وتخرج من الضاحية…
لكن الضاحية لا تخرج منك.
تلتفت حولك متسائلاً:
أهذه هي الضاحية التي تحدّت واشنطن وتل أبيب؟
أهذه هي الأرض التي وقفت في وجه عواصف العالم؟
فتدرك أن السر ليس في الشوارع ولا في الأبنية، بل في ذلك النفس الذي أخذه صدرك هناك، والمتشبّع بالعز، بالكرامة، بالشرف، وبالإيمان الذي جعل هذه البقعة الصغيرة حارسةً لوجه العرب والمسلمين.
إنها ضاحية العزّ…
ضاحية الكرامة…
ضاحية حافظت على شرف الأمة حين سقطت شرفات كثيرة.
وحين تغادرها، تُغادر مشياً… لكن قلبك يبقى فيها ساجداً في الظلّ، حيث يعيش الشهيد حيّاً، ويظلّ النور قائماً لا ينطفئ.


