تُقدم المرأة في بعض الدول التي تتبنى خطاب المساواة بوصفها مطالبة بالتماثل الكامل مع الرجل، كما تريد ذلك المنظمات النَسوية ودعاة ما يسمى بحرية المرأة. فيُقال لها: طالما طلبت المساواة بالرجل، فعليك أن تعملي مثله دون اعتراض، ودون نظر إلى الفروق الفطرية أو الأدوار الطبيعية.
هذا المشهد المقلق لا يقتصر على دول بعينها، بل يشمل معظم أوروبا وأمريكا وغيرها. وقد نقل لي أكثر من شخص أن عددا غير قليل من نساء بلده، بسبب مشاق العمل في مختلف المهن والحرف، قد فقدن الكثير من ملامح الأنوثة، حتى صارت الخشونة طابعا ظاهرا عليهن في الوجه والشعر، إن بقين على هذا النمط من الحياة.
من هذا المنطلق نرفض مفهوم المساواة حين يُراد به التماثل التام، ونرفض زج المرأة في المهن الشاقة. وبرأيي، خارج مجالات الصحة والتعليم وبعض الوظائف المحدودة، لا ينبغي دفع المرأة إلى أعمال تستنزف طاقتها وتخالف طبيعتها. وتشهد دوائر الدولة في العراق اليوم ظاهرة واضحة، حيث يفوق عدد الموظفات عدد الموظفين في كثير من المؤسسات، وهو أمر ينعكس اجتماعيا بشكل مباشر.
فمن جهة، تتفاقم مشكلة العنوسة؛ إذ إن الموظفة غالبا ما تشترط موظفا مثلها، بل ويُضاف أحيانا شرط آخر بالغ التعقيد، كالقوة الجسدية (معضل أي صاحب عضلات). ومن جهة أخرى، فإن تعيين الموظفة في الغالب لا يسهم في بناء أسرة بالقدر الذي يسهم فيه تعيين الموظف، لأن الأخير يُعد في العادة معيلا ومؤسسا لبيت، بينما يُفضي الإفراط في تشغيل النساء إلى خلل في ميزان الأسرة.
كما أن كثرة احتكاك النساء بالرجال في مختلف بيئات العمل تُعد، بحسب التعبير الاجتماعي الشائع، مدعاة لـ«المَيانة»، حيث يعتاد الطرفان الحديث بمبرر ودون مبرر، مما يقلل منسوب الحياء ويفتح أبوابا لا تُحمد عقباها.
إن الإسلام، في رؤيته المتكاملة، قد كفل رعاية المرأة وجعل نفقتها وحمايتها واجبا على الرجل، ولم يفرض العكس. أما الغرب، فقد قام خطابه الاجتماعي على أساس المماثلة المطلقة، حتى وصل الأمر إلى اختراق الفطرة بطرح مفاهيم كالجنس الثالث وما شابه، بدافع اقتصادي واضح؛ إذ لا يريد معيلا واحدا يدفع الضرائب، بل أسرة كاملة تعمل بأي عمل وتدفع الضرائب، ولا يريد أسرة محصنة من الانزلاق الأخلاقي، لأن في ذلك تهديدا لمصالح أصحاب رؤوس الأموال، وصناعة اللهو، والبارات، والملاهي الليلية.
ومن اللافت أن نجد داخل المجتمع الأمريكي نفسه نماذج رافضة لهذا المسار، مثل جماعة الأميش، وهم مجموعة بشرية ترفض الحداثة المتفلتة وتعيش على نمط الأسرة المتماسكة كما كانت قبل تفككها وانهيارها. وهذه النماذج، وإن وُجدت بنسب قليلة في أوروبا وآسيا، فإن وجودها الحقيقي والأوسع يتمثل في مجتمعات المسلمين، حيث لا تزال الأسرة المتزنة هي النموذج الغالب، تعطي لكل من الرجل والمرأة حقه وفق ميزان الشريعة الإسلامية، وتحمّلهما الواجبات بالميزان نفسه.
غير أن هذه المحافظة على الأسرة المسلمة لا تروق لأعداء الإسلام من داخله وخارجه، فعملوا على تبني الأنظمة والقوانين الغربية في بلادنا العربية والإسلامية بمختلف الوسائل، ونجحوا في ذلك إلى حد ملحوظ. وقد يتفاقم هذا النجاح ما لم نعمل بوعي واضح، وخطة مدروسة، على مواجهة الأفكار المنحرفة، ومنع القوانين التي تُمهد لمخاطر اجتماعية كالجندرة، والعنف الأسري بمفهومه المستورد، والعنف ضد الطفولة، والتمكين المطلق للمرأة، وغيرها من المصطلحات التي تحمل في مكنوناتها أخطارا جسيمة لمن خبرها وتعمق في خلفياتها.
والأخطر من ذلك أن هذه المفاهيم قد تنطلي حتى على بعض قيادات الأمة، فيُسهمون في نشرها تارة عن غير دراية، وتارة عن دراية وتواطؤ. ومن هنا فإن المواجهة ليست سهلة، والعمل في هذا الميدان ليس هينا، لكنه واجب لحماية مسار المجتمع المسلم وصيانة بنيته الأخلاقية والاجتماعية وهذا الواجب يقع أولاً وبالذات على الحوزة بكل من فيها بمختلف مستوياتهم وشأنيتهم وكذلك على النخب المسلمة الواعية فضلاً عن الحكومة ومجلس النواب وعلى كل مسلم ومسلمة يعي خطورة ما نمر به. والله ولي التوفيق.


