في فترات الأزمات، حين تختلط المفاهيم بين “الشرعية” و “النفوذ”، كان القضاء هو الجدار، الذي يحمي البلاد من الانزلاق نحو اللادولةفي كل مرة تقترب فيها العواصف من أبواب الدولة، يقف القضاء كالسور الأخير الذي لا يُهزم، لا لأن سلطته هي الأعلى، بل لأنها الأعمق جذوراً في الضمير الوطني، ومن بين رجالات الدولة، الذين صاغوا هذا المعنى، يبرز اسم الدكتور فائق زيدان، رئيس مجلس القضاء الأعلى، بوصفه أحد أكثر الشخصيات تأثيراً في صون التوازن بين القانون والسياسة، وبين الحق والباطل. ومنذ عام 2003، ظلّت السلطة القضائية في العراق تواجه اختباراً متكرراً حول كيفية الحفاظ على حيادها في نظامٍ مشحونٍ بالتجاذبات السياسية، وقد أثبتت التجربة أن بقاء الدولة لم يكن رهناً بقرارات الحكومة وحدها، بل بصلابة القضاء واستقلاله، فالقضاء ليس ذراعاً تنفيذية، بل هو ميزان الأمة حين تميل كفة السياسة، ومن هنا جاء الدور المركزي لمجلس القضاء الأعلى في حماية الدستور وتطبيق القانون على نحوٍ لا يخضع للأهواء ولا يتأثر بالضغوط. وعرف العراقيون فائق زيدان في أشد لحظات الاحتدام بين القوى السياسية، فكان صوتاً عاقلاً وسط الضجيج، يضع النص الدستوري فوق النزاع، ويُعيد الجميع إلى طاولة القانون، ولعلّ ما يميّز شخصيته أنه يمارس القوة الهادئة؛ فلا يتحدث كثيراً، ولا يرفع صوته، لكنه يحضر حيث يُراد إنقاذ الدولة من الانزلاق. ومثّل زيدان مدرسة في الإدارة القانونية الرفيعة، تقوم على احترام المؤسسات، وتجنّب الشخصنة، والزهد في المناصب، إذ رفض – في أكثر من مناسبة – عروضاً لتولّي رئاسة الحكومة، مفضلاً أن يبقى في موقعه الطبيعي كقاضٍ يخدم الوطن لا الحكم. وخلال السنوات الأخيرة، لعب مجلس القضاء الأعلى بقيادة زيدان دوراً محورياً في ترصين العملية الانتخابية، من خلال غربلة المرشحين، وفرض المعايير القانونية على الجميع دون استثناء، بما يمنع صعود الفاسدين أو أصحاب السوابق إلى البرلمان، وهذا الدور لا يقل أهمية عن أي إصلاح سياسي، لأن تطهير المشهد الانتخابي هو حجر الأساس لبناء سلطة تشريعية نظيفة، وبالتالي سلطة تنفيذية أكثر توازناً ومسؤولية. وينظر العراقيون اليوم إلى القضاء بوصفه الضامن لمرحلة ما بعد الاقتراع، حين تبدأ المفاوضات على تشكيل الرئاسات الثلاث والحقائب الوزارية، وهنا، تتكشّف الحاجة إلى قضاءٍ وطنيٍ محايدٍ، لا يخضع للإغراءات، ولا يشارك في لعبة المحاصصة، بل يحكم من موقع الضمير، ولذلك، يعوّل المراقبون على مجلس القضاء الأعلى في أن يكون الحكم العادل بين الأطراف، وأن يحافظ على وحدة الدولة من داخل النص القانوني، لا من خلفه. ومن هنا يعد أكبر مكسب حقّقه العراقيون بعد سقوط الاستبداد ليس تعدد الأحزاب، بل قيام سلطةٍ قضائيةٍ مستقلةٍ، استطاعت أن تُثبت وجودها في مجتمعٍ مليءٍ بالتجاذبات، ومن هنا، فإن الحديث عن فائق زيدان ليس تمجيداً لشخص، بل تقديرٌ لرمزٍ يجسّد فكرة العدالة الممكنة في وطنٍ يتلمّس طريقه نحو الديمقراطية الحقيقية، ولقد أثبت أن “القاضي” ليس موظفاً في مؤسسة رسمية، بل هو ضمير الدولة حين تتعدد ألسنتها، وميزان العقل حين تشتعل العواطف. وفي بلدٍ يتغير فيه كل شيء، بقي القضاء هو الثابت، وبقي فائق زيدان مثالاً على أن التوازن بين القانون والسياسة ممكن حين يكون القاضي أكبر من المنصب، وأصدق من العنوان، فالدولة لا تُبنى بالشعارات، بل بالضمائر، التي تكتب قراراتها بالحبر والوجدان معاً، وهذا ما فعله قاضي القضاة، الذي آثر أن يحكم باسم الشعب، لا باسم أحدٍ من السياسيين. |


