| من الظلّ، الذي كان يرتجف منه الخصوم، إلى الضوء، الذي صار يقرأ حركته الحلفاء، يخرج رجلٌ لم يختر السياسة، بل اختارته السياسة حين وصلت البلاد إلى الحافة، هو قوة لا تُقاس بالمناصب، وسؤال حول من يستطيع تشكيل الحكومة من دونه؟
في بلدٍ تتغيّر فيه المعادلات أسرع من تغيّر الحكومات، قلّما يظهر قائد يجمع بين ثلاث صفات لا تجتمع (صلابة الميدان، وهدوء الدولة، وذكاء التوقيت)، وقيس الخزعلي واحد من هؤلاء القلائل، الذين حوّلوا وجودهم من “دور أمني” إلى “معادلة سياسية”، دون أن يفقد صرامة الأولى ولا حكمة الثانية. ولم يأتِ الرجل من عمامةٍ ورثت نفوذاً، ولا من سلالات المراجع الكبار، بل جاء من طين الجنوب، ومن ذاكرة أبناء الفرات، الذين يعرفون أن الولاء الحقيقي يُختبر في النار لا في البيانات، فشكل من حبات الرمل جبلاً فاز بمقعد واحد سنة 2014، حتى وصل إلى 28 مقعدا في 2025، متقدّماً على أحزابٍ أقدم من جمهورها، وأعرق من تأثيرها الحالي. والقوة السياسية للخزعلي لا تكمن في حضوره الإعلامي، بل في نوعية اللحظة التي يظهر فيها، فهو الرافعة، التي أوصلت عادل عبد المهدي، والجدار، الذي اصطدم به الكاظمي، والجسر، الذي عبر خلاله السوداني، والبوابة، التي قد تمنح الأخير ولاية ثانية أو تحجبها تماماً، ولأن البعض يصفه بـ”صانع الملوك“، فإن الحقيقة أبعد وأعمق، لكون الخزعلي لا يصنع ملوكاً، بل يصنع ممالك، وذلك بناءً على قدرته في الموازنة بين القوى ودوره في منع الفوضى، مما أتاح له أن يرسم شكل الحكم دون أن يجلس في مقعد الحاكم. وليس سهلاً أن ينتقل قائد مقاوم إلى رجل دولة دون أن يخسر أحد الجانبين، ولكن الخزعلي فعلها حين أعاد إنتاج العصائب من بنية مسلحة إلى كيانٍ سياسي–مؤسسي، دون أن يتخلى عن شرعية الميدان ولا عن شرعية الدولة، والدليل؟ أن الطبقة الوسطى الشيعية — التي كانت تميل نحو المدنية — بدأت تراه اليوم شخصية جدية، هادئة، تحمي “الحاكمية الشيعية” من دون مبالغة، وتقدّم خطاباً يمزج بين القوة والواقعية والمراجعة الهادئة. ولا يقيس الخزعلي قوته بالتحدي، بل بما يسمّيه بعض السياسيين سراً “معادلة الأمان”، فحين يجلس الرجل في طاولة مفاوضات، يعرف الجميع أنه لا يرفع سقف المطالب إلا بقدر ما يستطيع أن يلتزم به، ولهذا يلجأ إليه أطراف سنّية وكردية، لأنهم يدركون أن وعده لا يتغيّر بتغيّر المزاج، باعتباره ليس رجل “الاستعراض السياسي”، بقدر رجل “الإلتزام السياسي”. وما يجعل الخزعلي شخصية لافتة ليس فقط مهاراته التنظيمية، بل قدرته على قراءة المخطّطات قبل أن تتحرك، فهو يعرف من يثير الفوضى، ومن يموّل الاحتجاجات، ومن يشتري الذمم، ومن يخطط لإعادة العراق إلى صندوق بريد السفارات، ولذلك صار الرجل — بوعي — شبكة إنذار مبكر في السياسة العراقية، لكونه يرى العاصفة قبل أن يراها الآخرون، ويمنعها قبل أن تتحوّل إلى انهيار، ولهذا السبب بالذات، بات يحظى بنظرة احترام حتى من أولئك الذين يختلفون معه، لأنهم يعرفون أنه “لا يخطئ التقدير” حين تصل البلاد إلى اللحظة الحرجة. وإذا كانت السياسة العراقية تُدار بالمفاجآت والانقلابات اللحظية، فإن الخزعلي هو النقيض، رجلٌ يخطط على المدى الطويل، ويقرأ اللحظة كمن يرى الطريق تحت ضوء خافت، ويختار الصمت حين يُغري الكلام، ويتحرك حين يتجمّد الآخرون، ولذلك، فإن حضوره في انتخابات 2025 لن يكون حضور زعيم كتلة، بل حضور عمود توازن في الدولة، وجوده يمنع الانهيار، وغيابه يفتح الباب أمام الاحتمالات. هذا القائد .. ليس لاعباً في رقعة الشطرنج، بل هو الرقعة نفسها. |


