تمثل الانتخابات في أي دولة ديمقراطية نضجًا للتجربة السياسية ومعيارًا لوعي الشعب وإرادته. وفي خضم المنافسات المحتدمة، تبرز مواقف ودروس تُشكّل منعطفات حاسمة في مسيرة الأمة. فالانتخابات الأخيرة في العراق لم تكن مجرد استحقاق لاختيار ممثلي الشعب، بل كانت تجسيدا حقيقيًا لمدى تقدم العملية السياسية ورسوخها.
الدرس الأول: الفوز الأكبر للتجربة والديمقراطية
انتهت الانتخابات بفوز من يستحق الفوز، وخسارة من يستحق الخسارة، وفقًا لإرادة الناخبين التي هي في النهاية مرآة حقيقية لأداء المرشحين وبرامجهم. ومع احترام جميع الخيارات، يبقى التاج الأكبر مُتوّجًا على رأس العملية السياسية نفسها، التي أثبتت قدرتها على التداول السلمي للسلطة، وهي المكسب الاستراتيجي الذي يفوق أي فوز فردي. كما أن الفضل الأول يعود للشعب العراقي البطل، الذي تحدي كل التحديات وأثبت من خلال مشاركته الفاعلة والواسعة أنه الركيزة الأساسية لهذا البناء الديمقراطي، وأن إرادته هي التي تمنح الشرعية وتُرسي الأسس المتينة لدولة القانون والمؤسسات.
الدرس الثاني: سقوط الشعارات الطائفية وارتدادها على أصحابها
شهدت الحملات الانتخابية لبعض المرشحين من خلفيات معينة، ولاسيما بعض النواب السنة، استغلالاً للخطاب الطائفي واستخداماً لشعارات مهينة ومتطرفة، مثل وصف الآخرين بـ “العتاكة” ومحاولة تسويق فكرة أنهم يمثلون “الأغلبية” الحقيقية في البلاد. لكن هذه الاستراتيجية التقسيمية جاءت بنتائج عكسية تمامًا.
فبدلاً من تثبيط همم من تمت إهانتهم، عملت هذه الخطابات كصاعقٍ حفّز مشاعر المسؤولية الوطنية وألهب الحماس لدى تلك القوى التي حاول البعض تصويرها على أنها “أقلية”. فاندفع أبناء هذه المكونات إلى صناديق الاقتراع بشكلٍ كبيرٍ ومؤثر، لا دفاعًا عن طائفتهم بقدر ما كان دفاعًا عن هويتهم الوطنية الموحدة وعن حقهم في المشاركة في بناء وطنهم. لقد قدموا برهانًا عمليًا ساحقًا على أن إرادة الشعب لا تُختزل في خطاب طائفي ضيق، وأن الأكثرية الحقيقية هي لأبناء العراق المخلصين.
واللافت للنظر أن هذا الإقبال الكبير والنجاح في إثبات الحضور الجماهيري والثقل الانتخابي تحقق رغم عدم مشاركة التيار الصدري، الذي يمثل كتلة شعبية كبيرة تنتمي إلى من وصفوهم ب(العتاكة )ولو كان هذا التيار قد شارك في الانتخابات، لكان الفارق في النتائج أكبر بكثير، ولتبين للجميع وبالأرقام مدى الضعف والهشاشة في ادعاءات أولئك الذين رفعوا شعار “الأغلبية” المزعومة، أمثال “خمسين الخنجر” وأتباعه من أصحاب الأجندات الطائفية، الذين أساؤوا إلى الوطن وإلى أنفسهم قبل أن يُسئوا إلى غيرهم.
الدرس الثالث: الانتخابات معركة أفكار وبرامج، لا ساحة للفتنة
الانتخابات الناجحة هي في جوهرها معركة ديمقراطية سلمية، يجب أن تدور رحاها حول التنافس على الأفكار والبرامج والرؤى لخدمة المواطن وتحقيق التنمية. يجب أن تكون المنافسة على “ما تقدمه” من حلول لمشاكل الناس في الكهرباء والتعليم والصحة والأمن، وليس على “من تهاجمه” وتُثير ضده النعرات الطائفية والبغيضة.
لقد أثبتت الانتخابات الأخيرة أن شعلة الوطنية هي الأقوى، وأن نار الفتنة الطائفية، وإن اشتعلت لوهلة، فإن مصيرها هو الخمود والانطفاء أمام إرادة الشعب الواعي. لقد رفض الناخب العراقي أن يكون رهينة في يد من يريد أن يحشده خلف شعارات جوفاء تزرع الفرقة والكراهية.
إن الدروس المستفادة من هذه الانتخابات ثمينة وغالية. فهي تؤكد أن الطريق الوحيد للبناء والتقدم هو تعزيز الهوية الوطنية الجامعة، والاحتكام لصناديق الاقتراع بعيدًا عن لغة التخوين والاستعداء. إن انتصار الإرادة الشعبية وإفشال الخطاب الطائفي هو انتصار لكل العراقيين، وهو رسالة واضحة إلى الجميع: أن عراق المستقبل يُبنى باليد الممدودة للتعاون، وليس باليد المرفوعة للشتائم، وبالمنافسة الشريفة على خدمة الشعب، وليس بالتحريض على تمزيق نسيجه الوطني.


