السلبية: عندما يأكل المثقف من نفايات أفكاره

السلبية: عندما يأكل المثقف من نفايات أفكاره
ينتقد النص المثقف السلبي الذي يحارب التغيير بالبقاء في دائرة النقد الهدام، ويحوّل العجز إلى فلسفة، ويُحبط المجتمع بدل تطويره، مؤكداً ضرورة مواجهة السلبية بالتحليل والحقيقة لضمان تقدم الوعي الجماعي....
ما إن أمسكتُ بالقلم حتى مرّت أمامي وجوهٌ مألوفة، كأن الذاكرة تعرف المرض قبل تعريفه (زهير الجزائري، يحيى الكبيسي، عدنان الطائي، علي حسين، عقيل عباس، فارس حرام، إحسان الشمري، باسل حسين)، لم أبحث عنهم، بل هم حضروا، لأن الحديث يستدعي الشواهد تلقائياً

في كل مرحلة من مراحل وعي الأمم، يظهر نوعٌ من “المثقفين” الذين يشبهون الطفيليات الفكرية، يعيشون على ما ينتجه الآخرون، وينتقدونه، ثم يلعقون بقاياه ليقنعوا أنفسهم أنهم اكتشفوا الخلل في الكون، إنهم أولئك، الذين يعرّفون أنفسهم بعبارة “نحن التقدميين” أو “نحن المدنيين”، بينما هم في الحقيقة نخبة ميتةٌ سريرياً، تتغذّى على دماء الحياة العامة باسم النقد.

العدوان السلبيPassive Aggression

ويُسمّي علم النفس هذه الحالة بـ“العدوان السلبي” (Passive Aggression)، وهي آلية دفاعية يلجأ إليها العاجزون حين يعجزون عن الفعل، فيتحوّلون إلى التثبيط، ولهذا يقول عالم النفس الشهير إريك فروم “الإنسان، الذي لا يملك القدرة على البناء، يكتفي بأن يكره من يبنون”، وهذا بالضبط هو المثقف السلبي في بلدنا، والذي لم يصنع فكرة واحدة منذ عشرين عاماً، لكنه لم يترك فكرة ناجحة إلا وجرّب اغتيالها بالكلمات.

وكانت الثقافة يوماً ما مشروعاً للوعي والمقاومة، قبل أن تتحوّل إلى “نادي نقد” بلا اشتراكٍ معرفي، والغريب أن هؤلاء، الذين يتحدّثون عن ثورة الوعي، يعيشون من أموال المموّلين، ويشتمون الدولة وهم يتقاضون رواتب من مؤسساتها، وينظّرون ضدّ السلطة وهم يتلذّذون بالمنح الحكومية، فهم ثوريون في الصالون، لا في الميدان؛ وناقدون في الشاشات، لا في الجامعة.

وفي كتاب ما وراء الخير والشر يقول فريدريش نيتشه “حين يعجز الإنسان عن الصعود، يبدأ في تعليم الآخرين كيف يزدرون القمم”، وهذا هو لبّ السلبية، باعتبارها تحويل العجز إلى فلسفة، والكسل إلى موقف فكري، بينما يشرح سيغموند فرويد أحد أكثر أشكال “النرجسية المنكسرة” هو أن “يتحوّل النقد إلى تعويضٍ عن الفشل الشخصي”، ومن هنا يمكن فهم سلوك أولئك المثقفين، الذين يهاجمون كل مبادرة أو فكرة جديدة، لا لأنهم يفهمونها، بل لأن وجودها يذكّرهم بما فشلوا في تحقيقه.

ولذلك قال عالم الاجتماع بيار بورديو “حين يفقد المثقف قدرته على التأثير، يبدأ في ممارسة سلطة الرماد”، أي إنه يعيش من أثر ما كان، لا من فعل ما يكون، ويرتبط ذلك بما يراه إميل دوركهايم عن المجتمعات، التي تفقد توازنها القيمي، حيث تنتج نوعين من البشر، هم الفاعلين والمثبطين، الفاعلون يصنعون الحياة، والمثبطون يصنعون الأعذار.

وفي لحظة التحوّل السياسي والاجتماعي، التي يعيشها العراق اليوم، يبرز “المثقف السلبي” كأخطر أعداء الوعي، لأنه لا يحاربك بسلاح، بل يسرق منك الأمل، إنه لا يريد أن يفشل وحده، بل يريد للجميع أن يشاركونه فشله كي لا يشعر بالعري، وهنا تكمن خطورته، من كونه لا يهاجم باسم الكراهية، بل باسم الوعي.

علم النفس الجماعي

وعلم النفس الجماعي يصنّف “العدمية النقدية” كاضطرابٍ ناتج عن تجربة تهميش أو خيبة اعتراف، فالذي لم يُعترف به في بيئته الأولى يبدأ في شنّ حربٍ ضدّ كل من يُعترف به، فهو لا يريد الحقيقة، بل يريد أن يثبت أن لا أحد يملكها، تماماً كما يقول أدورنو “من لا يستطيع أن يحب العالم، يحاول أن يبرهن أنه لا يستحق أن يُحب”، وهكذا، يتحوّل النقد إلى لذة مرضية، ويصبح المثقف السلبي تاجراً في سوق الحسد، يبيع “التحليل” ويشتري الفوضى.

والفرق بين الناقد والمثبط أن الأول يفتح نافذة، والثاني يغلق الباب، والناقد يهاجم من أجل التطوير، والمثبط يهاجم من أجل التدمير، الأول يسأل “كيف يمكن أن نصبح أفضل؟” والثاني يقول “كل شيء فاسد” لينام مرتاح الضمير، ولعل هذا الدافع وراء تكاثر “الصفحات المريضة” في مواقع التواصل، التي تحوّل كل نجاح إلى مؤامرة، وكل وطني إلى تابع، وكل مشروع إلى صفقة، لأنهم لا يحتملون رؤية الضوء إلا حين ينطفئ.

وبالتالي ينبغي أن نعامل “السلبية” كما نعامل الفساد، كجريمةٍ فكرية، لأنّ المجتمع، الذي يتسامح مع المثبطين، يفقد مناعته ضد الانحطاط، ومن واجب كل من يؤمن بالوعي أن يواجههم بالحقائق لا بالصراخ، وبالتحليل لا بالتبرير، لأن “السلبي” لا يخاف من الشتيمة، بل من المرآة، ولهذا فإن المرحلة القادمة يجب أن تُعرّفهم تعريفاً قاطعاً، بكونهم (سلبيين)، والسلبي هو الذي يرى العيب في كل شيء إلا في نفسه.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *