الخمسة ملايين… وملامح السيل القادم

الخمسة ملايين… وملامح السيل القادم
تُظهر النتائج انخفاض المشاركة الشيعية إلى نحو خمسة ملايين، ما يعكس أزمة ثقة عميقة بالنظام السياسي، مقابل حضور سنّي وكردي أوسع. ويبرز التيار الصدري كمتغيّر حاسم قد يغيّر المشهد كلياً عند عودته، في مؤشر لبداية مرحلة جديدة....

تُظهر نتائج الانتخابات الأخيرة، وبعد أشهر طويلة من التعبئة السياسية، وإنفاق مالي واسع، واستخدام مكثّف للخطاب الطائفي، إضافة إلى الضغوط المباشرة وغير المباشرة على الناخبين، أن عدد المشاركين من الناخبين الشيعة لم يتجاوز خمسة ملايين شخص فقط.

رقمٌ صادم، بالنظر إلى حجم الجهود التي بُذلت لحشد القاعدة التقليدية لهذه المكوّنات.

يمثل هذا الرقم شريحة واسعة من مقلدي مراجع النجف الأشرف ومراجع قم، من بينها: السيد علي السيستاني، السيد علي الخامنئي، أسرة آل الحكيم، الشيخ بشير النجفي، الشيخ محمد إسحاق الفياض، والشيخ محمد اليعقوبي. وفوق ذلك، يتزاحم على الساحة عدد كبير من القيادات السياسية والفصائلية في إطار السعي لاحتكار “الأغلبية الشيعية”، منهم: نوري المالكي، هادي العامري، عمار الحكيم، فالح الفياض، قيس الخزعلي، شبل الزيدي، حسين مؤنس، أبو آلاء الولائي، أبو فدك، بالإضافة إلى أحزاب وتيارات جديدة قررت خوض الانتخابات لأول مرة.

ومع هذا الزخم الكبير… لم تتجاوز الحصيلة خمسة ملايين ناخب.

عزوفٌ يعكس أزمة ثقة

إن هذا الانخفاض الواضح يعبّر عن خلل بنيوي عميق في البيئة السياسية والاجتماعية للبيت الشيعي، ويكشف عن تراجع الثقة العامة بالعملية الانتخابية وبالقوى التقليدية التي هيمنت على المشهد خلال العقدين الماضيين. فالمواطن الذي جرّب وجوهاً عدة ووعوداً متكررة، لم يعد يؤمن بأن الانتخابات يمكن أن تُحدث تغييراً حقيقياً في واقعه.

لقد أصبحت صناديق الاقتراع في نظر كثيرين مجرد وسيلة لإعادة إنتاج نفس الطبقة السياسية، بنسخٍ مختلفة في الشكل، متطابقة في الجوهر. وبهذا المعنى، فإن الامتناع عن التصويت لم يعد موقفاً سلبياً، بل تحول إلى شكل من أشكال الاحتجاج الصامت على منظومةٍ فشلت في بناء دولة عادلة وقادرة.

ولولا المشاركة الكبيرة من المكوّن السني والكردي — التي رفعت نسبة المشاركة العامة — لكانت الصورة أكثر وضوحاً من حيث هشاشة المشاركة داخل القاعدة الشيعية تحديداً.

احتجاج صامت وهوية ضائعة

هذا الواقع لا يمكن تجاهله، بل يتطلب قراءة معمّقة. فالقواعد الشيعية التي كانت لعقود تمثل الكتلة الأكبر وزناً وتأثيراً، باتت اليوم تعبّر عن احتجاجٍ محسوب، أو انسحابٍ منظم، أو بحثٍ عن هويةٍ سياسية جديدة تعكس تطلعاتها بعد سلسلة من الخيبات المتراكمة.

إن الجمهور الشيعي لم يعد يرى في القوى التقليدية ممثلاً حقيقياً له، بل بات يشعر بالاغتراب السياسي، ويفكر في بدائل خارج الأطر الحزبية القديمة. واللافت أن هذا التحول يجري بصمت، دون شعاراتٍ كبيرة أو بياناتٍ صاخبة، وكأنه يعلن نهاية مرحلة وبداية أخرى تُكتب بهدوء في عمق المجتمع لا في ساحات الإعلام والسياسة.

التيار الصدري… الغائب الحاضر

ورغم أن التيار الصدري اختار في السنوات الأخيرة الانسحاب من العملية السياسية — انسحاباً إرادياً وليس عجزاً — إلا أن ملامح التأثير الشعبي ما تزال واضحة. فالحالة الصدرية لم تكن في يوم من الأيام مجرّد ظاهرة عابرة أو موجة انتخابية ظرفية، بل هي حركة اجتماعية سياسية راسخة، تمتلك امتداداً جماهيرياً واسعاً، وعمقاً عقائدياً، وانضباطاً تنظيمياً لا تمتلكه معظم القوى المنافسة.

“المدّ الصدري” — وفق معطيات الواقع — يمثل أحد أهم المتغيرات الكامنة في المعادلة السياسية العراقية. فوجوده، حتى في حالة الانسحاب، يشكّل ضغطاً معنوياً على بقية القوى، ويعيد ترتيب الحسابات داخل البيت الشيعي. وأي عودة مفاجئة أو منظمة لهذا التيار إلى مربع المشاركة السياسية، في اللحظة التي يحددها زعيمه السيد مقتدى الصدر، قد تغيّر شكل العملية السياسية بالكامل، وتعيد رسم الخريطة الانتخابية والبرلمانية، بل وربما تفتح الباب لتحولاتٍ جذرية تمتد لسنوات طويلة.

نهاية مرحلة وبداية أخرى

فالتحركات الشعبية الكبرى، حين تأتي بإرادةٍ جماعية وبقيادةٍ ذات شرعية اجتماعية، لا يمكن مواجهتها بالتحالفات التقليدية، ولا احتواؤها عبر التفاهمات السياسية الضيقة. فالسيل عندما ينطلق… لا يمكن إيقافه، بل يجب الاستعداد لتأثيراته وإعادة تشكيل الخطاب السياسي في ضوء مخرجاته.

إن اللحظة الراهنة ليست نهاية المشهد، بل بداية مرحلة جديدة تتطلب قراءة هادئة وصبورة، فالأيام دول، والسياسة دورات، وما يبدو مستقراً اليوم قد يتغير جذرياً غداً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *