الانتخابات وأخطر التنازلات

الانتخابات وأخطر التنازلات
تتناول المقالة استقبال رافع الرفاعي المحكوم بالإعدام في العراق، موضحة تأثير ذلك على استقلال القضاء والثقة بالمؤسسات، ومؤكدة على الحاجة إلى إصلاح النظام السياسي لضمان احترام القانون وتحقيق العدالة الاجتماعية....

في مشهد يثير الاستغراب والاستنكار، شهدت الساحة السياسية العراقية حدثاً غريباً تمثل في عودة رافع الرفاعي، المحكوم غيابياً بالإعدام بتهمة التحريض على قتل القوات العراقية، وسط استقبال رسمي مهيب على “السجادة الحمراء” من قبل مستشار الأمن الوطني.
وعلى الرغم من أن المدعو رافع الرفاعي ليس أول المطلوبين للقضاء العراقي ممن تلطخت أيديهم بدماء الشعب العراقي، ولن يكون الأخير، فقد سبقه علي حاتم السلمان، ومحمد الدايني، وخميس الخنجر وغيرهم، إلا أن الطريقة التي تم بها استقبال الرفاعي بهذه الصورة الاستفزازية لغالبية الشعب العراقي، شيعة وسنة، ممن اكتووا بنار الطائفية التي أجّجها بخطبه وفتاواه التكفيرية ودعمه قولا وفعلا للمجاميع الإرهابية بمختلف مسمياتها وعلى رأسها عصابات داعش الإجرامية، أحدثت ردة فعل قوية في الشارع العراقي وأشّرت على أكثر من علامة استفهام حول مدى جدية الحكومة والقضاء في احترام سيادة الدولة وقدسية الدم العراقي.

سابقة خطيرة تثير القلق

إن هذه الحادثة تثير العديد من التساؤلات الخطيرة حول مدى احترام الدولة لمؤسساتها القضائية، خاصة أن الحكم الصادر بحق الرفاعي لم يُلغ، وما زالت الإجراءات القضائية قائمة بحقه. وهذا ما يجعل الواقعة سابقة خطيرة على مستويات عدة، لأنها تكشف هشاشة العلاقة بين مؤسسات القضاء والسلطة التنفيذية، وتوضح كيف يمكن للقرارات السياسية أن تضعف هيبة الدولة وتربك العدالة.

أولاً: المستوى القضائي

على الصعيد القضائي، تمثل هذه الواقعة انتهاكاً صريحاً لاستقلال القضاء، إذ تُحوّل الأحكام الصادرة عن المحاكم إلى مجرد حبر على ورق، وتوجه رسالة سلبية للمجتمع مفادها أن الأحكام القضائية قابلة للتجاوز عبر الوساطات السياسية أو الصفقات المؤقتة.
هذا الإخلال بمبدأ العدالة يجعل المواطن يفقد ثقته بالمؤسسات القضائية، ويشعر بأن القانون في العراق لا يُطبق بعدالة على الجميع، بل يُستخدم أحياناً كأداة انتقائية تُرفع بوجه الضعفاء وتُسحب عن المتنفذين.

ثانياً: المستوى السياسي

سياسيًا، تكشف هذه الحادثة عن عمق ثقافة الإفلات من العقاب التي ترسخت في المشهد السياسي العراقي. الرسالة التي وصلت للناس واضحة: الثوابت الوطنية قابلة للمساومة، والمبادئ يمكن تأجيلها أو تجاوزها متى ما اقتضت الحاجة السياسية أو التحالفات الانتخابية.
إن استقبال شخص مدان بالإرهاب بهذا الشكل ليس مجرد خطأ بروتوكولي، بل يعكس تنازلاً مبدئياً خطيراً يضرب فكرة العدالة في الصميم، ويضعف ثقة المواطن بمؤسسات الدولة التي يُفترض بها حماية القانون لا تجاوزه.

ثالثاً: المستوى الاجتماعي

أما اجتماعياً، فالأثر أشد قسوة. لقد جُرحت مشاعر آلاف العراقيين، وخاصة عائلات شهداء القوات الأمنية التي قاتلت الإرهاب وقدمت التضحيات الكبرى دفاعاً عن الوطن. هذه الأسر ترى اليوم من حرّض على قتل أبنائها يُستقبل بالورود.
إن مثل هذا المشهد يعمّق الإحباط لدى الشارع العراقي ويُكرّس ثقافة الازدواجية في تطبيق القانون، ويقوض مبدأ المساواة أمام القضاء، بل ويدفع المجتمع نحو مزيد من الانقسام والريبة في نوايا الدولة ومؤسساتها.

تحالفات ما بعد الانتخابات

هذه الواقعة تذكّرنا بطبيعة النظام السياسي العراقي القائم على التحالفات البرلمانية التي تُبنى غالباً على المصالح لا المبادئ. فالأحزاب التي تتسابق لتشكيل “الكتلة الأكبر” بعد كل انتخابات تسعى لضمان مناصبها بأي ثمن، حتى وإن تطلّب الأمر تقديم تنازلات خطيرة تمسّ القضاء أو كرامة الدولة.
إن مثل هذه التنازلات لا تُضعف فقط ثقة المواطن بالانتخابات، بل تفرغ الديمقراطية من مضمونها، وتحولها إلى لعبة نفوذ ومكاسب شخصية.

الحاجة إلى نظام يحترم القانون

إن ما جرى مع الرفاعي ليس مجرد حادثة عابرة، بل جرس إنذار حول مستقبل الدولة العراقية، وضرورة إصلاح النظام السياسي بما يكفل احترام سيادة القانون واعتباره أولوية فوق كل الاعتبارات الحزبية والطائفية. الدولة العادلة لا تُبنى على التسويات، بل على تطبيق القانون بلا تمييز أو محاباة، وعلى ضمان الحقوق واحترامها، لأن العدالة هي أساس استقرار المجتمعات ودوامها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *