تتوقف حياة أمة على محك خيار، وتتقاذفها أمواج أزمات تتطلب قراراً مصيرياً يشبه قرار إجراء عملية جراحية لاستئصال ورم خبيث. هذه هي الحال مع الانتخابات البرلمانية في العراق، التي لا يمكن النظر إليها على أنها مجرد مناسبة سياسية روتينية، بل هي الجراحة الكبرى التي ستحدد مصير البلاد لسنوات قادمة. ولتوضيح هذه الصورة، لنستحضر قصة ذلك الأب المصاب بورم خبيث في جسده، واختلف أولاده حول مصيره.
فلنتخيل أن “العراق” هو ذلك الأب الحنون، الذي أنهكته سنوات من المعاناة، وأصيب بداء عضال يتمثل في الفساد المستشري، والضعف المؤسسي، وانهيار الخدمات، والتبعية للخارج، والنزاعات الطائفية والسياسية. هذا الورم الخبيث لا يكتفي بالانتشار، بل يهدد بإنهاك الجسد كله حتى الموت. العملية الجراحية (الانتخابات) هي الخيار الوحيد والأخير لاستئصال هذا الداء، وإعطاء الجسم فرصة للشفاء والنمو من جديد.
وحول سرير هذا الأب، يقف أبناؤه (المواطنون) وهم منقسمون إلى فريقين:
- الفريق الرافض للعملية (المقاطع للانتخابات): هؤلاء هم من فقدوا الأمل في جدوى أي علاج. يقولون: “وما الفائدة؟ لقد جربنا عمليات سابقة (انتخابات سابقة) والورم يعود أقوى مما كان!” أو “الجراحون أنفسهم (الطبقة السياسية) هم من زرعوا الورم!” أو “العملية محفوفة بالمخاطر وقد تودي بحياته!” إنهم يرون المعاناة الحالية ويخشون من مجهول قد يكون أكثر إيلاماً. إحباطهم مفهوم، وموقفهم نابع من ألم حقيقي، لكن استسلامهم للواقع المرير هو بمثابة قبول بموت الأب بطءً، والسماح للورم بالانتصار دون محاولة أخيرة.
- الفريق المؤيد للعملية (المشارك في الانتخابات): هؤلاء هم من يؤمنون بأن الأمل في الحياة لا ينقطع. يقولون: “نعم، العمليات السابقة لم تنجح تماماً، ولكن ربما نجد في هذه المرة جراحاً جديداً (وجوهاً جديدة) أو تقنية أفضل (برامج أفضل).” ويدركون أن “عدم المحاولة هو الموت المحقق، بينما المحاولة تحمل في طياتها بصيص أمل للنجاة.” إنهم لا ينكرون المخاطر، لكنهم يقدمون فرصة الحياة على يقين الموت.
لماذا المشاركة هي القرار الصائب؟
- مقاطعة الانتخابات هي استسلام للورم: عندما يمتنع المواطن عن التصويت، فهو يسلم صوته – دون أن يدري – لأكبر كتلة أو لأكثر المرشحين فساداً وتمكناً في الساحة. المقاطعة تعني ترك ساحة المعركة فارغة لخصومك، مما يسهل عليهم الفوز وتكريس الوضع القائم. إنها ليست احتجاجاً فعالاً، بل هي انتحار سياسي.
- الصوت هو المبضع (المشرط) الجراحي: كل صوت هو شق جراحي صغير يساهم في استئصال جزء من الورم. عندما تتجمع ملايين الأصوات، فإنها تشكل القوة القادرة على إجراء العملية برمتها. الصوت هو السلاح الوحيد الذي يمكن للمواطن العادي أن يوجهه مباشرة إلى صلب الفساد.
- الانتخابات فرصة لتغيير الطاقم الطبي: إذا فقدنا الثقة ببعض الأطباء، فالحل ليس بترك المريض يموت، بل البحث عن أطباء جدد ذوي كفاءة ونزاهة. الانتخابات هي الآلية الدستورية الوحيدة “لطرد الأطباء الفاشلين” وإدخال دماء جديدة واعية وطموحة تحمل برامج علاج حقيقية.
- الشفاء يحتاج وقتاً وصبراً: لا تنجح عملية استئصال ورم استمر لسنوات في يوم وليلة. يحتاج الجسم إلى رعاية لاحقة وإعادة تأهيل. كذلك العراق، فحتى لو لم تظهر نتائج الانتخابات بشكل فوري، فإن المشاركة تضمن بقاء الأمل حياً، واستمرار عملية البناء، وعدم إغلاق الباب تماماً أمام التغيير.
خاتمة: دعوة للحياة
إن قرار مقاطعة الانتخابات، بكل ما يحمله من مشاعر إحباط مشروعة، يشبه قرار إبقاء الأب على سرير المرض دون علاج، والانتظار حتى يفارق الحياة. إنه قرار عاطفي قائم على اليأس.
أما قرار المشاركة، فهو قرار شجاع قائم على الإرادة والأمل والمسؤولية. هو قرار بأن نقف جميعاً كأبناء أوفياء لأرضنا، لا لنتفرج على احتضارها، بل لنمسك بـ “المبضع” ونقول: “هذه جراحتنا، وهذه فرصتنا للحياة”.
لنمنح العراق فرصة أخرى. لنشارك في الانتخابات بوعي ومسؤولية، نختار من نؤتمنهم على جراحة الوطن، لأن الصمت هو التواطؤ مع المرض، والصوت هو البداية الحقيقية للشفاء.


