ربما أكون على خطأ، وربما أتحدث بالتكهنات، لكنّي — بخلاف أغلب منتقدي السيد مقتدى الصدر، وحتى معظم أنصاره — أرى شيئًا مختلفًا تمامًا في طريقة تفكيره وفي توقيتات قراراته. هذا الرجل، شئنا أم أبينا، يمتلك توفيقات إلهية وتقديرًا فريدًا للحظة السياسية: يعرف متى يدخل، ومتى ينسحب، ومتى يترك الساحة لأنصاره، ومتى يلجمهم إذا تجاوزوا الخطوط الحمراء.
انسحاب التيار الصدري… صدمة أيقظت الجمهور الشيعيالتيار الذي حصل سابقًا على 73 مقعدًا، حين قرر المقاطعة، فتح الباب — من دون أن يدري بعض خصومه — أمام خطابٍ طائفي خطير خرج من أفواه الطائفيين، الذين اعتقدوا أن غياب هذا الثقل سيجعل الساحة خالية لهم، فبدأوا يرفعون أصواتهم، ويُحرّضون جمهورهم، ويستفزّون باقي شيعة العراق بخطابٍ تقسيمي وتهديدي واضح. لكن ما لم يتوقّعوه أن هذه النبرة لم تُرهب الشيعة… بل أيقظتهم. المقاطعون لم يشلّوا المشاركة، بل دفعوا جمهورًا شيعيًا واسعًا — كان غير مبالٍ — إلى أن يتحرك لأول مرة منذ سنوات، بعدما شعر بالخطر على كيانه ومقدساته ومكتسباته، خصوصًا مع غياب أصوات التيار الصدري التي كانت تشكّل ثقلاً وازنًا في أي عملية انتخابية. حركة تُحسب للسيد مقتدى… حتى لو أغضبت البعض قد يختلف معي كثيرون، وقد يعتب عليّ البعض الآخر، لأسباب عديدة:منهم من تضرّر سابقًا من بعض تصرفات أفراد في التيار، ومنهم من عاش تهديدًا أو احتكاكًا مباشرًا، ومنهم من يرى الأمور بمنظور اختلافٍ سياسي يشبه اختلاف جمهور الريال وبرشلونة… لكن الحق يُقال:قرار المقاطعة كان جزءًا من قراءة سياسية عميقة، حرّكت جمهور الشيعة نحو المشاركة، بدل أن تترك الساحة للطائفيين. تشابه التجارب… واختلاف الحجم أقولها بصراحة:ربما يشعر البعض أنني أُبالغ، لكنّني أرى أن طريقة تفكير السيد مقتدى قريبة من طريقتي — لا غرورًا — بل لأننا تقريبًا نفس الجيل، وعشنا ذات الظروف، وعايشنا التحولات، لكن الفرق بيننا أن الرجل قائد تيار كبير، متشعب، وله قاعدة جماهيرية وقوة عسكرية، بينما أنا — بكل تواضع — قائد لأهلي وإخوتي وعرقي، وكاتب ومحلل سياسي لا أكثر. لكن القراءة السياسية، والإحساس بالخطر قبل وقوعه، والتركيز على توازنات الشارع… هذه أمور لا تحتاج لقبًا بقدر ما تحتاج حدسًا ونضجًا وتجربة. قد يختلف معي الكثيرون، وقد أتلقى النقد أكثر مما أتلقى التأييد، لكنّني سأقولها كما هي:مقاطعة التيار الصدري لم تُضعف الشيعة… بل منعت سقوطهم في فخّ الإحباط، وأعادت للشارع الشيعي روحه حين استشعر الخطر. وهذه الحركة — مهما قيل عنها — تُحسب للسيد مقتدى الصدر، لا عليه. ويبقى المشهد السياسي العراقي مسرحًا لا يجيد قراءته إلا القلائل… ومنهم رجل يعرف متى يتقدم، ومتى ينسحب، ومتى يترك الآخرين يكتشفون ما اكتشفه هو منذ البداية. |


