اللواء يروشالمي ضحية جديدة لطمس جرائم الحرب في إسرائيل؛ لم تكن استقالة – أو بالأحرى إقالة – المدعية العامة العسكرية في جيش الاحتلال الإسرائيلي حدثًا عابرًا في مسار المؤسسة الأمنية، بل جاءت كزلزال صامت كشف حجم التصدع الداخلي في منظومةٍ تتستر على جرائم الحرب في غزة والضفة الغربية وفي لبنان.
فوفق ما نقلته شبكة قدس الإخبارية وعرب 48، فإن المدعية العامة العسكرية التي تحمل رتبة لواء وُضعت قسرًا أمام خيارين: الصمت أو التصفية المعنوية، بعد أن حوّلت ملفات حساسة تتعلق بانتهاكات جسيمة ارتكبها جنود الاحتلال، من بينها قضية “سديه تيمان” منذ حوالي سنة والتي هزّت الرأي العام الإسرائيلي والدولي على حد سواء.
وتشير المعطيات المتقاطعة إلى أن اليمين المتشدد داخل المؤسسة العسكرية والسياسية قرر التخلص منها قبل أن تكتمل أي تحقيقات، قد تجرّ قادة بارزين إلى المحاكمة.
فالفيديو المسرب عن ممارسات الجنود بالإعتداء الجنسي على سجناء فلسطينيين وبتغطية من زملائهم هو فيديو قديم منذ سنة تقريبًا ولكن جعلوا منه مادة دسمة جدًا للتخلص َمن المدعية العامة بطريقة مهينة وَمشينة.
ونظرًا لرتبة لواء التي تحَملها الَمدعية العامة العسكرية دون أن نسمع سابقًا أية شائبةحول عملها يشكك بصدقية إعترافها حول مسؤوليتها تسريب الفيديو؛ ويبدو أنها وقعته تحت التهديد.
ونقلت صحيفة “هآرتس” عن ضباط في الاحتياط ومسؤولين بارزين في أجهزة التحقيق بالجيش قولهم إن المدعية شعرت بأنها “مهدَّدة بفعل التحريض ضدها”، وإنها “تجنبت، بذريعة مختلفة، فتح تحقيقات أو تسريعها”، في قضايا توصف بأنها “من أكثر الملفات حساسية” خلال الحرب على غزة.
وذكرت ضابطة احتياط في النيابة العسكرية أن المرة الأولى التي شعرت فيها بـ”عدم الارتياح” تجاه أداء المدعية العامة العسكرية المقالة حديثا، كانت بعد استشهاد سبعة من متطوعي منظمة “المطبخ المركزي العالمي” (WCK) في غارة جوية إسرائيلية على دير البلح في نيسان/ أبريل 2024.
وأضافت: “كان واضحًا جدًا أن كل ما جرى هناك مخالف للأوامر والتعليمات”، مؤكدة أن المدعية “قررت إحالة القضية إلى جهاز التحقيق الميداني في هيئة الأركان”، لكن عندما أظهرت نتائج الفحص أن الحادث يستوجب تحقيقًا جنائيًا من الشرطة العسكرية، “لم يحدث ذلك ببساطة… الحادث اختفى”..
واحالت المدعية العامة ملف سديه تيمان المتعلق بانتهاكات جنسية وتعذيب بحق أسرى فلسطينيين في معسكر الاحتجاج إلى التحقيق ولم تستلم نتائج تحولت هي إلى مجرمة سربت فيديو صوره أحد الجنود للتباهي به على منصات التواصل الإجتماعي وقد حصل ذلك فعلًا وأُقيلت قبل إكتمال التحقيق معها.
وقد أحالت ملف مجزرة حي الزيتون وملف قصف مدرسة الفاخورة اللذان تضمنا أدلة على تعمد استهداف المدنيين والمؤسسات التابعة للأمم المتحدة وأخذ الملف طريقه إلى التلافة كغيره من الملفات التي سيقترف فيها الجنود جرائم قد ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وكما أحالت ملف مقتل الأسرى في السجون العسكرية نتيجة الحرمان والتعذيب، والذي حاولت جهات عليا طمسه تمامًا وأخذ طريقه إلى الحفظ وعدم العمل عليه بأوامر عليا.
تلك الملفات وضعتها المدعية العامة على طاولة المدعي العام العسكري الأعلى بانتظار فتح تحقيقات رسمية، لكنها لم تتلقَّ أي رد، بل فوجئت بتجميد عملها وإقالتها بطريقة َمهينة ومشينة لمنعها من الوصول إلى نظام المعلومات العسكري.
إنّ إقالتها قبل قبول استقالتها أو التحقيق معها،؛ تمثل إدانة واضحة للنظام القضائي العسكري نفسه، وتؤكد أن ما يسمى بـ”العدالة الإسرائيلية الداخلية” ليس سوى واجهة لتضليل المجتمع الدولي ومنع تدخل المحكمة الجنائية الدولية.
فقد تحولت هذه المؤسسة إلى أداة سياسية بيد اليمين المتطرف تعمل على حماية مجرمي الحرب، لا على محاسبتهم.
أما اختفاؤها في ظروف غامضة بعد الإقالة، فهو دليل إضافي على أن الضغط تجاوز كل الحدود ليصل إلى مستوى التهديد الشخصي، في محاولة لإسكاتها ومنعها من تسريب ما تملك من وثائق قد تفضح تورط القيادة العليا أثَّرَ على توازنها، وتصرفت بطريقة غير عقلانية فتغيبت عن منزلها وقيل أنها وجدت على شاطئ البحر وهي بخير.
وهكذا، تصبح هي الأخرى ضحية في مسرح الإخفاء القسري للعدالة داخل إسرائيل نفسها.
إنّ ما حدث للمدعية العامة العسكرية اللواء يفعات لا يُعدّ حادثًا فرديًا، بل حلقة في سلسلة ممنهجة تهدف إلى تصفية كل صوت قانوني أو ضميري داخل إسرائيل يحاول كشف الحقيقة. والمجتمع الدولي، بصمته المريب، يتحمّل جزءًا من المسؤولية عن استمرار هذه الانتهاكات. فحين يُسكت المدافعون عن العدالة وتُطوى ملفات الإبادة، تصبح إسرائيل دولةً خارج أي رقابة قانونية أو أخلاقية. إنّ إقالة المدعية العامة هو الوجه الآخر لإخفاء الحقيقة، والحقيقة لا تموت مهما حاولوا طمسه.
وإنً غدًا لناظره قريب


