التضليل الإعلامي وصناعة الخبر الكاذب: “ترامب وتفجيرات البيجر” نموذجًا

التضليل الإعلامي وصناعة الخبر الكاذب: "ترامب وتفجيرات البيجر" نموذجًا
يحلل النص آليات فبركة الأخبار وأثرها المدمر على الوعي العام، مؤكداً أهمية التحقق النقدي، والمسؤولية الإعلامية، وضرورة التثقيف الإعلامي لمواجهة التضليل المتزايد، خاصة مع تطور الذكاء الاصطناعي في إنتاج الأخبار الزائفة....

 “حين تصبح المعلومة سلاحًا، تتحوّل الحقيقة إلى هدفٍ مهدَّد.”

المقدمة:

قال الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات – 6).

وفي عصر الفوضى المعلوماتية، لم تعد الكلمة تُقاس بمصدرها بقدر ما تُقاس بسرعة انتشارها. فخلال اليومين الماضيين، ضجّت وسائل إعلام عربية بخبرٍ مفاده أن الرئيس الأميركي  ترامب “اعترف بدوره في تفجيرات البيجر في لبنان” خلال مقابلة مع مجلة تايمز الأميركية.

لكنّ التحقق السريع كشف أنّ هذا التصريح لا وجود له في أيّ من أرشيف المجلة، وأنّ العلاقة الوحيدة بين ترامب و”البيجر” تعود إلى هدية البيجر الذهبي التي تلقّاها من نتنياهو، لا إلى أي عمل عسكري أو تفجير.

لذا لا بد من تناول فبركة الخبر  من عدة زوايا:

أولًا – كيف تُفبرك الأخبار؟

يبدأ الخبر المفبرك غالبًا بعبارة جذابة تُربك القارئ مثل: “صرّح لمجلة تايمز الأميركية”؛ هنا يُستخدم اسم وسيلة إعلام عالمية لإضفاء مصداقية فورية. ثم تُنسخ الجملة بين مواقع إلكترونية متوسطة الموثوقية من دون أي رابط مباشر إلى النص الأصلي، فتنتشر المعلومة بسرعة، بينما يتراجع التحقق العلمي إلى المرتبة الأخيرة.

ثانيًا – مؤشر التلاعب:

في حالة خبر مسؤولية ترامب عن عملية “البيجر” ، لا يوجد:

1- رابط مباشر إلى موقع Time الرسمي (time.com).

2- نص إنكليزي للمقابلة أو تسجيل صوتي أو مرئي.

3- أي إشارة في حسابات تايم أو ترامب الموثّقة إلى تصريح مشابه.

هذه المؤشرات الثلاثة كافية لتصنيف الخبر كمعلومة مضلّلة (Disinformation).

ثالثًا – دوافع النشر:

تنتشر هذه الأخبار لأسباب متباينة:

1- جذب القراء عبر العناوين الصادمة.

2- توجيه سياسي لاستثمار اسم ترامب في مجزرة العصر وفي صراع إقليمي.

3- إرباك الرأي العام اللبناني في لحظة توتر أمني.

4- توسيع فجوة الثقة بين المواطن ووسائل الإعلام.

رابعًا- مسؤولية الإعلام:

فالمنصات التي نشرت الخبر، لم تُرفق روابط توثيقية، ولم تُشِر إلى مراسل في واشنطن، أو مصدر من داخل المجلة. وهذا خلل مهني جسيم يخالف قواعد النشر الصحفي التي تُلزم بذكر المصدر الأولي والتحقق قبل التعميم.

خامسًا – أثر التضليل في الوعي العام:

فالخبر الكاذب لا يُحدث ضررًا لحظيًا فحسب، بل يزرع شكًّا عميقًا في كل ما يلي من أخبار صحيحة. وهكذا تتآكل الثقة بين الجمهور والإعلام، ويصبح المجال العام مسمومًا بالشائعات التي تُربك الدولة والمجتمع معًا.

سادسًا – كيف نواجه التضليل؟

نواجه التضليل  بالوعي  الهادئ  بإعتماد التالي:

  1. التحقق من المصدر الأصلي عبر المواقع الرسمية للمؤسسات الصحفية العالمية.
  2. استخدام أدوات البحث المتقدم مثل Google Fact Check وSnopes وReuters Fact Check
  3. التمييز بين النقل والتوثيق:

فالموقع الناقل ليس دليلًا يعتمد على كمرجع أساسي، والرابط المباشر وحده هو الدليل.

  1. التثقيف الإعلامي

 (محو الأمية آلإعلامية) (Media Literacy)

وهو ضروري كجزء من مناهج التعليم لمواجهة الموجة القادمة من “الذكاء الاصطناعي الإخباري”  الذي يُنتج محتوى زائفًا بإتقان لغوي وبصري.

سابعًا – نموذج الوعي اللبناني:

فما جرى في خبر تبني ترامب مسؤولية تفجير “البيجر”؛ يؤكد أنّ الوعي النقدي الشعبي، قادر على إيقاف موجات التضليل قبل أن تتحول إلى “حقيقة افتراضية”.

فالتدقيق السريع والعودة إلى المصدر — كما فعل البعض — هو خط الدفاع الأول عن الحقيقة.

الخاتمة:

إنّ التضليل الإعلامي لم يعد يُدار من غرف مظلمة فقط، بل من خوارزميات تُتقن التوقيت وتختار الجمهور. وأمام هذا الواقع، لا بدّ من بناء منظومة تحقق وطنية وإعلامية تحمي الرأي العام من التحوير والافتراء. فالحقيقة لا تحتاج إلى ضجيجٍ كي تُسمَع، بل إلى عقلٍ متيقّظ لا يُخدع بالبريق.

فالأخبار الكاذبة الإشاعات ستزداد في الأيام القادمةظ  وعلى كل واحدٍ منا ان يكون فطنًا كيِّسًا، حتى لا ينجرف مع مسار الإشاعات والأخبار المفبركة، ويتبناها؛ ويندم ساعة لا ينفع الندمَ؛ وكما تأمرنا الآية الكريمة؛

{…… فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} .

وإنَْ غدًا لناظره  قريب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *