عراق ما بعد إلغاء تفويض الحرب الأمريكية: سيادة أم هشاشة؟

عراق ما بعد إلغاء تفويض الحرب الأمريكية: سيادة أم هشاشة؟
ألغى الكونغرس الأمريكي تفويضَي الحرب ضد العراق لعامي 1991 و2002، ما يقلّص قدرة واشنطن على العمليات العسكرية، ويتيح للعراق تعزيز سيادته، إعادة التفاوض على الشراكات، وتخفيف التوترات الداخلية مع الفصائل المسلحة والداعش....

صوّت الكونغرس الأمريكي على إلغاء تفويض الحروب ضد العراق، وهو قرار تاريخي يُنهي مبررات غزو 2003 وحرب الخليج الأولى، لكنه في الوقت نفسه يطرح أسئلة جديدة..

في العاشر من أيلول 2025، أقر مجلس النواب الأمريكي، بأغلبية 261 صوتاً مقابل 167، تعديلاً ضمن قانون الإذن الدفاعي الوطني (NDAA) لعام 2026، قضى بإلغاء تفويضي استخدام القوة العسكرية (AUMF) ضد العراق لعامَي 1991 و2002.

ينهي هذا القرار صلاحيات قانونية استُخدمت لتبرير حرب الخليج الأولى 1991، وغزو العراق عام 2003، الذي استند إلى معلومات غير صحيحة بشأن امتلاكه أسلحة دمار شامل، وكلف ترليونَي دولار وآلافاً من الأرواح، جلهم من العراقيين، وصولاً إلى استخدام هذه الصلاحيات في 2020 لتبرير اغتيال الجنرال الإيراني، قاسم سليماني، في بغداد.

تحولات السياسة الامريكية

القرار يعكس تحولاً عميقاً في السياسة الأمريكية تجاه التدخلات الخارجية بعد عقود من الحروب، ويمثل لحظة فاصلة تعيد تعريف دور الولايات المتحدة في العراق والشرق الأوسط، وتفتح أمام الحكومة العراقية آفاقاً لتعزيز السيادة الوطنية.

القرار الذي يُعد تاريخياً، جاء بدعم ثنائي من الحزبين بقيادة الديمقراطي غريغوري ميكس والجمهوري تشيب روي، وعكس توافقاً نادراً. من جهة، يرى الديمقراطيون أن الإلغاء يستعيد سلطة الكونغرس الدستورية بموجب المادة الأولى، التي تجعل إعلان الحرب من اختصاصه الحصري. ومن جهة أخرى، يدعم الجمهوريون المناهضون للتدخلات، مثل النائب باتريك مايتش، القرار كوسيلة للحد من “الحروب اللامتناهية”، ولا سيما في ظل مخاوف من تصعيد مع إيران أو الصين. تصريحات نائب الرئيس جي دي فانس، الذي دعم الإلغاء بوصفه سيناتوراً في 2023، تعزز هذا التوجه أو جزءاً منه، إذ يرى أن التركيز يجب أن ينصبّ على التهديدات الاستراتيجية، مثل الصين، بدلاً من التورط في نزاعات إقليمية.

هذا التحول ليس معزولاً عن الرغبة والإرادة الشعبيتين، واستطلاعات الرأي العام تثبت ذلك، مثل استطلاع غالوب لعام 2024، الذي أظهر بأن 62 في المئة من الأمريكيين يعارضون التدخلات العسكرية المطولة، مما يعكس تغيراً في المزاج الشعبي.

وإدارة بايدن، التي أيدت الإلغاء سابقاً في 2021، وصفت التفويضات بأنها “عفا عليها الزمن”، بينما يعكس دعم إدارة ترامب الثانية لهذا التوجه تركيزاً على سياسة “أمريكا أولاً”. ومع ذلك، يواجه القرار تحديات، إذ يعارضه بعض الجمهوريين الذين يخشون أن يُضعف الإلغاء قدرة الولايات المتحدة على مواجهة إيران. فيما يعده بعض المحللين السياسيين، سواء في أمريكا أو خارجها، مناورة سياسية لا تترك أثراً مباشراً في العراق على المدى القصير، لأن القوات الأمريكية هنالك بالفعل، ولن ينسحب أثره على اتفاقيات مبرمة مع الحكومة العراقية كالحرب على داعش، لذا فإن العديد منهم ينظر إلى القرار على أنه ذو بعد رمزي لا غير.

الانعكاسات على العراق

إلغاء التفويضين لن يؤدي إلى انسحاب فوري للقوات الأمريكية من العراق، حيث اعتمد وجود الـ 2500 جندي حالياً على اتفاقية الإطار الاستراتيجي لعام 2008، ودعوة الحكومة العراقية لبقائهم، وليس على التفويضين المُلغيَين، (علماً أن القرار جاء بالتزامن تقريباً مع موعد انسحاب قوات التحالف الدولي القتالية بقيادة الولايات المتحدة من العراق عدا إقليم كردستان). التصريحات التي صدرت عن البيت الأبيض في 2025، أكدت أن العمليات الحالية التي تركز على مكافحة داعش لا تعتمد حصرياً على تفويض 2002، مما يعني استمرار المهام الأمنية على المدى القريب. لكن رغم ذلك، يحدّ الإلغاء من قدرة الإدارة الأمريكية على توسيع العمليات، أو شنّ ضربات جديدة دون موافقة الكونغرس، مما يقلل من مخاطر التصعيد العسكري.

من الجانب العراقي، يعزز القرار المواقف السياسية الداعية إلى تقليص الوجود الأمريكي أو إنهائه، خاصة بعد موجات من هجمات الفصائل المقرّبة من إيران على القواعد الأمريكية، التي بلغت أكثر من 170 هجوماً منذ تشرين الأول 2023، وفقاً لتقرير معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى. وقد يشجع هذا الإلغاء على تسريع التحول نحو انسحاب تدريجي، على غرار ما حدث بعد 2011، مع التركيز على مهام تدريبية واستشارية.

أما إقليمياً، فيُضعف القرار قدرة واشنطن على استخدام العراق كمنصة لضربات ضد إيران أو وكلائها في سوريا، مما يعزز التوازن الإقليمي. كما قد يدفع حلفاء مثل السعودية وإسرائيل إلى تعزيز قدراتهم الدفاعية الذاتية، بينما يمنح العراق مساحة أكبر للمناورة السياسية، مع بقاء اتفاقية التعاون الاستراتيجي سارية المفعول، مما يضمن استمرار الالتزام الأمريكي بمكافحة الإرهاب، لكنه ينذر بانتقال نحو نموذج تعاوني أقل تدخلاً أو باستجابة أبطأ.

كما يقدّم إلغاء التفويضين فرصة استثنائية للحكومة العراقية لتعزيز سيادتها، وإنهاء الاعتماد العسكري على الولايات المتحدة. وقد عبّر عن ذلك رئيس لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي، كريم المحمداوي، في تصريح رحب فيه بالقرار، ووصفه بـأنه “خطوة نحو استعادة السيادة الكاملة”، والسيادة الكاملة تعني إعادة تعريف علاقة بغداد بواشنطن لتنتقل إلى شراكة استراتيجية.

ووفقاً لهذه الرؤية يمكن رصد فرص عدة متاحة، أولها، إعادة التفاوض على اتفاقيات التعاون العسكري لتتحول إلى شراكات اقتصادية وتكنولوجية، مثل مشاريع الطاقة أو إعادة الإعمار، مما يقلّل الاعتماد على المساعدات الأمريكية. ثانياً، تعزيز السيادة السياسية من خلال رفض استخدام الأراضي العراقية كساحة للصراع الأمريكي-الإيراني، مما يهدئ التوترات الداخلية مع الفصائل الموالية لإيران. ثالثاً، يمكن لبغداد الضغط دبلوماسياً لتسريع إغلاق القواعد الأمريكية، مع الاستفادة من الدعم الإقليمي من دول الخليج، التي تنظر إلى استقرار العراق على أنه جزء من أجندة الاندماج الاقتصادي.

ومع ذلك، يواجه العراق تحديات داخلية؛ فقد تستغل خلايا تنظيم داعش، التي نفّذت 132 هجوماً في 2024، وفقاً لتقرير الأمم المتحدة، هذا القرار والانسحاب المأمول لتعزيز نشاطها. أو قد تملأ الفصائل المسلحة الأشدّ قرباً من إيران الفراغ المحتمل من الانسحاب لتوسيع نشاطها فتأثيرها السياسي. لذلك، يتطلب استثمار هذا القرار تماسكاً سياسياً وخطة واضحة لتطوير القدرات الأمنية العراقية، بما في ذلك تعزيز القوات الجوية والاستخبارات.

لا يمكن أن يكون إلغاء تفويضي الحرب لعامي 1991 و2002 مجرد قرار تشريعي، بل نقطة تحول استراتيجية، تعيد تشكيل السياسة الأمريكية وعلاقاتها بالعراق. بالنسبة إلى واشنطن، هو خطوة نحو سياسة خارجية أكثر انضباطاً. وبالمقابل، فهو بالنسبة إلى العراق مكسب نادر يتعين استثماره بحكمة، من خلال تعزيز قدراته الأمنية، وتهدئة التوترات الداخلية، وبناء شراكات إقليمية، لضمان استقرار دائم وسيادة حقيقية كاملة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *