إنّ إقرار قانون الحشد الشعبي لم يكن خطوةً سياسية عابرة، بل كان إعلاناً صريحاً عن إرادة عراقية حرّة أرادت أن تصون نفسها من محاولات الهيمنة الخارجية وتفكيك عناصر قوتها.
فقد وُلد الحشد الشعبي من رحم فتوى الدفاع المقدّس التي أصدرها سماحة آية الله العظمى الإمام السيستاني “دام ظله الوارف”، ليكون التعبير الأصدق عن وحدة الشعب العراقي في مواجهة أخطر تهديد وجودي، وتمكّـن بدماء أبنائه وتضحياتهم من دحر الإرهاب التكفيري الذي كان يهدد العراق والمنطقة بأكملها.
الاستهداف الخارجي للحشد الشعبي
إنّ الولايات المتحدة الأمريكية، ومعها حلفاؤها، تدرك تماماً أن الحشد الشعبي مؤسسة عراقية خالصة، تستمد شرعيتها من قرار سيادي وطني، لكنها في الوقت نفسه تعي أن هذا الحشد يمثل إحدى أهم ركائز القوة العراقية.
ولذلك تعمل بكل الوسائل على تجريده من مكانته القانونية والدستورية، وإظهاره وكأنه قوة خارجة عن الدولة، في حين أن الواقع يؤكد أنّـه جزء لا يتجزأ من المنظومة الأمنية الرسمية، ومكمّـل للجيش والشرطة في حفظ الأمن والدفاع عن السيادة.
إنّ المعضلة الأساسية تكمن في أن واشنطن تريد عراقاً ضعيفاً، مرتهناً لإرادتها، خالياً من عناصر الردع الاستراتيجية، كي يسهل التحكم بقراراته المصيرية. فكلما امتلك العراق قوةً وطنيةً رادعة، سواءً في الجيش أو الحشد أو في وعي الشعب، ازداد استقلال قراره السياسي، وقلّـت قدرة أمريكا على فرض أجنداتها عليه.
الرهان على الوعي الشعبي العراقي
اليوم يقف العراق، (قواه السياسية وجماهيره)، أمام اختبار تاريخي:
هل يثبت العراقيون لأنفسهم أولاً، وللعالم ثانياً، أنهم أحرار في صناعة قرارهم، أم يرضخون لإملاءات خارجية تُـصادر سيادتهم وتفرّغ بلدهم من عناصر قوته؟
إنّ إقرار قانون الحشد الشعبي ليس مجرد تشريع قانوني، بل هو معيار لقياس حجم الإرادة الوطنية والقدرة على مواجهة الضغوط الأجنبية.
والحفاظ على الحشد الشعبي ليس خياراً حزبياً أو فئوياً، بل هو استحقاق سيادي يخصّ كل العراقيين، لأنه يمثل الضمانة الاستراتيجية بوجه الإرهاب والمشاريع الاستعمارية ..ومَـن يتخلى عن الحشد إنما يتخلى عن العراق ذاته.
وهنا تكمن الحكمة التاريخية التي أدركها العراقيون؛ فالقوة العسكرية وحدها لا تصنع سيادة، بل يجب أن تقترن بإرادة سياسية موحدة ووعي جماعي يرفض الانقسام ويُؤثر المصلحة العليا للوطن على أي مصالح أخرى.
ومن منظور اقتصادي، فإن الحفاظ على مؤسسات السيادة الوطنية يمثل ركيزة أساسية للاستقرار، الذي هو بدوره الشرط الأساسي لأي تنمية اقتصادية حقيقية. فالدول التي تفرط في أدوات سيادتها تتحول إلى سوق مستباح للمصالح الخارجية ومسرحاً للتنافسات الدولية على النفوذ، مما يفقدها قدرتها على بناء اقتصاد وطني مستقل وقادر على تلبية احتياجات شعبه.
الرهان اليوم ليس على قوة السلاح فحسب، بل على وعي العراقيين بضرورة حماية مكتسباتهم الوطنية، وصون سيادتهم من الهيمنة الأمريكية التي ما زالت تريد أن تبقي العراق في دائرة الضعف والتبعية لها.
وبذلك، فإن مستقبل العراق مرهون بقدرة شعبه ونخبه السياسية على التمسك بالحشد الشعبي كعنوان للسيادة والإرادة الحرة، وإلا فإن أي تنازل عن هذا المنجز سيعني عملياً فتح الأبواب لعودة الوصاية الأجنبية على أشدها من جديد.


