تحولات في المشهد السياسي البريطاني ونهاية الثنائية الحزبية

تحولات في المشهد السياسي البريطاني ونهاية الثنائية الحزبية
يشهد المشهد السياسي البريطاني تراجع هيمنة المحافظين والعمال، مع صعود حزب الإصلاح بزعامة نايجل فراج، ومبادرة جيريمي كوربن وزارة سلطانة، ما قد ينهي الثنائية الحزبية التاريخية ويفتح المجال لمرحلة سياسية أكثر سيولة وعدم استقرار...

منذ عام 1945 شكل الحزبان الكبيران؛ المحافظون والعمال، ركيزة الحياة السياسية في بريطانيا. غير ان هذا التوازن الذي طبع المشهد السياسي طوال النصف الثاني من القرن العشرين بدأ يتصدع منذ مطلع الالفية، حين ادخل توني بلير، الذي تولى رئاسة الوزراء بين عامي 1997 و2007، حزب العمال في مسار تحولي عميق، جرده تدريجيا من هويته اليسارية التاريخية، وجعله اقرب الى تشكيل وسطي براغماتي لا يختلف كثيرا في السياسات الاقتصادية والاجتماعية عن منافسه التقليدي.

تبنى بلير ما يعرف ب”الطريق الثالث”، واضعا الحزب في قلب الاجماع النيوليبرالي عبر التخلي عام 1995، عن “البند الرابع” من ميثاقه، والذي كان يعبر عن التزامه التاريخي بالملكية الجماعية وحقوق الطبقة العاملة. وقد مكنه ذلك من تحقيق ثلاثة انتصارات انتخابية متتالية في اعوام 1997، 2001، و2005، لكنه خلق فراغا ايديولوجيا ادى لاحقا الى ازمة تمثيل مزمنة، لا سيما في قواعده الشعبية القديمة شمال انجلترا، وبين الطبقة العاملة والنقابات.

أزمة الحزبين التاريخيين

وبرزت محاولات داخل الحزب لاستعادة البوصلة اليسارية، كان ابرزها تجربة جيريمي كوربن، الذي قاد الحزب بين عامي 2015 و2020، لكن الحروب الداخلية، والصراع بين انصار بلير وقوى القاعدة الحزبية بالاضافة الى الاعلام المعادي، قادت الى تقويض اي مشروع تحويلي حقيقي.

وفي حال جرت انتخابات مجلس العموم قريبا، كما هو متوقع عام 2026، فقد يدفع الحزبان اللذان شكلا جوهر النظام الحزبي البريطاني طوال ما يقرب من قرن الى الهامش، او على الاقل قد يعجزان عن تشكيل حكومة اغلبية. ويعاني الحزبان؛ المحافظون والعمال، من انهاك داخلي مزمن. الاول الذي حكم البلاد خلال معظم الفترات منذ عام 2010، لم يعد له علاقة تذكر بالمحافظية التقليدية؛ والثاني الحاكم حاليا، تخلى عن الديمقراطية الاجتماعية واليسار، ليغدو مجرد تشكيل وسطي باهت الرؤية، وخاليا من البرامج السياسية.

يبرز حزب الاصلاح بزعامة نايجل فراج، مهندس البريكست الذي انسحبت بريطانيا بموجبه من الاتحاد الاوروبي رسميا في كانون الثاني 2020. ويسجل حزبه تقدما ملحوظا على المحافظين في استطلاعات الرأي بفارق يصل الى اكثر من عشر نقاط مئوية.

صعود قوى سياسية جديدة

اما حزب المحافظين فلم يستعد عافيته منذ اخفاقات حكومة بوريس جونسون 2019–2022 وخلفائه الاضعف، وهو الان يغرق في ادنى مستويات شعبيته منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية.

ويخسر حزب العمال نسبة معتبرة من تاييده تقارب 15%، لصالح مبادرة سياسية يقودها زعيمه السابق جيريمي كوربن تحت اسم مؤقت “حزبك”، تشاركه فيها البرلمانية الشابة من اصول باكستانية زارة سلطانة، المنتخبة للبرلمان منذ عام 2019. وما يلفت النظر ان كوربن لا يزال يحتفظ بنسبة تعريف جماهيري تتجاوز بكثير رئيس الوزراء الحالي كير ستارمر، الذي يقود الحزب منذ نيسان 2020، بينما يحظى حزبه الجديد باعلى نسب تاييد بين الشباب، خاصة اولئك الذين سيصوتون للمرة الاولى في الانتخابات المقبلة.

ان انحدار الحزبين التاريخيين لا يعني بالضرورة تجذر الديمقراطية، بل قد يفتح المجال امام حالة من السيولة السياسية الخطرة. فقوى “التمرد الانتخابي” تواجه عادة محاولات احتواء شرسة من قبل الدولة العميقة ومراكز القوة غير الرسمية، التي لا تتردد في استخدام ادواتها من الاغراءات الى الحملات الاعلامية، وحتى الضغوط القضائية، لاستيعاب هذه القوى او تحييدها.

وقد نكون بذلك امام مشهد جديد تماما في السياسة البريطانية، حيث تنتهي الثنائية التاريخية لصالح قوى ناشئة تبحث عن موطئ قدم في نظام لم يعد يرضي احدا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *