مجموعة بريكس ترسخ ملامح النظام الاقتصادي العالمي البديل في قمة ريو دي جانيرو

مجموعة بريكس ترسخ ملامح النظام الاقتصادي العالمي البديل في قمة ريو دي جانيرو
قمة بريكس في ريو دي جانيرو 2025 شهدت تحولًا كبيرًا نحو بناء نظام اقتصادي وسياسي بديل. المجموعة عززت التعاون التجاري والمالي، ودعمت مشاريع صناعية مستدامة، واتخذت مواقف حاسمة في الصراعات العالمية....

شهدت مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية مطلع يوليو 2025 انعقاد القمة السادسة عشرة لمجموعة بريكس في لحظة دقيقة تشهد فيها العلاقات الدولية تحولات متسارعة على الصعيدين الاقتصادي والجيوسياسي. هذه القمة لم تكن مجرد لقاء سنوي تقليدي، بل مثلت وفق المؤشرات الراهنة نقطة انعطاف في مسار المجموعة التي بدأت تتحول من تكتل فضفاض ذي طابع رمزي إلى تكتل فعلي يسعى إلى بناء فضاء اقتصادي وسياسي مشترك يحمل طموحًا لتغيير موازين القوى العالمية وتقديم بدائل ملموسة للنظام الدولي القائم.

أكدت بيانات القمة أن دول مجموعة بريكس استطاعت أن ترسخ شراكتها الاقتصادية الداخلية، حيث تجاوز حجم التبادل التجاري بين الدول الأعضاء عتبة التريليون دولار أمريكي، وهو رقم رمزي لكنه يعكس منحى تصاعديًا في التنسيق الاقتصادي. كما حققت دول المجموعة مجتمعة نموًا اقتصاديًا ملحوظًا في العام السابق بلغ 4.1% متجاوزًا المعدلات العالمية في أغلب المناطق، ومؤكدًا أن تكتل الجنوب العالمي لم يعد هامشًا على خريطة الاقتصاد الدولي بل قوة كامنة تنمو بثبات.

الدفع نحو استقلالية مالية وتجارية

واحدة من أهم القضايا التي بحثت في قمة ريو هي الدفع باتجاه استكمال إنشاء نظام تسويات مالية وتجارية مستقل عن المنظومة الغربية وعلى رأسها نظام “سويفت” الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة. وقد مثلت التجربة الإيرانية ثم الروسية دافعًا عمليًا لتسريع هذا المسار، إذ باتت واشنطن تستخدم أدوات النظام المالي كسلاح سياسي في صراعاتها. على ضوء ذلك، طرحت آليات بديلة للتسويات بين دول بريكس، كما سجلت خطوات متقدمة في التعاون المالي بين روسيا وبعض الدول الإفريقية في نموذج يراد تعميمه داخل المجموعة ومع شركائها. الهدف المعلن هنا لا يقتصر على تجاوز العقوبات، بل يشمل أيضًا بناء منظومة نقدية موازية تتيح الاستقلال المالي والسيادي للدول النامية.

لم تكتفِ قمة بريكس بمقاربات مالية فحسب، بل تناولت أيضًا مشروعًا هيكليًا طموحًا تحت عنوان “الشراكة من أجل الثورة الصناعية الجديدة”. وهو برنامج يهدف إلى إرساء تحول صناعي متوافق مع متطلبات البيئة والتنمية المستدامة، لكن من منظور جنوبي مغاير لما تطرحه الأجندات الخضراء الغربية. يركز المشروع على خلق فرص عمل في القطاعات الإنتاجية وتعزيز القدرات الصناعية الوطنية مع تأكيد واضح على ألا تكون السياسات البيئية مبررًا لفرض قيود على التنمية. في هذا السياق، تقدّم بريكس مقاربة بديلة للحداثة الصناعية تنطلق من احتياجات الجنوب العالمي بدلًا من إملاءات المؤسسات الدولية.

مواقف سياسية حاسمة وتوتر مع الغرب

اتخذت القمة أيضًا مواقف سياسية حاسمة عكست توجه المجموعة نحو بناء خطاب دولي مشترك بشأن الصراعات العالمية. فقد دان البيان الختامي توغل أوكرانيا في إقليم كورسك الروسي في موقف يؤكد وقوف بريكس إلى جانب موسكو في صراعها الجيوسياسي مع الغرب. كما وصفت المجموعة العدوان الإسرائيلي على إيران بأنه عمل غير مقبول، في إشارة إلى رفضها للنهج الأحادي الإسرائيلي ودعمها لسيادة الدول. هذه المواقف تمثل تطورًا لافتًا في طبيعة عمل بريكس التي طالما اتسمت بالحذر السياسي، لكنها باتت اليوم تبلور مواقف موحدة تتجاوز الاقتصادي إلى الاستراتيجي.

لم تمر خطوات بريكس دون رد فعل من القوى الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة التي ترى في التوجه نحو الاستقلال المالي والنقدي عن الدولار تحديًا مباشرًا لنفوذها العالمي. وقد جاء ذلك في تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي هدد خلال مؤتمر صحفي رسمي بفرض رسوم جمركية إضافية على دول المجموعة في حال استمرت بمحاولات مقاومة ما وصفه بالدور الحاسم للولايات المتحدة في قيادة النظام المالي العالمي. هذا التهديد يعكس تصاعد التوتر بين واشنطن والعواصم الصاعدة، لا سيما في ظل نقاشات داخل بريكس بشأن إزالة الدولرة واستبدال الدولار بعملات محلية أو بآلية تسوية مستقلة في التجارة البينية. ومن الواضح أن هذا المسار لم يعد مسألة تقنية أو اقتصادية محضة، بل أصبح ساحة من ساحات التنافس الجيوسياسي بين القوى الكبرى.

تبدو مجموعة بريكس اليوم وقد بدأت بالفعل الانتقال من مرحلة التعاون الرمزي إلى التنسيق المؤسسي. فالاستثمارات المتبادلة في تصاعد والمواقف السياسية تتقارب، والبدائل النقدية والمصرفية بدأت تتشكل على أرض الواقع. صحيح أن التحديات كبيرة، سواء من داخل المجموعة لتباين الأنظمة السياسية ومستويات التنمية، أو من الخارج نتيجة الضغوط الغربية، لكن الاتجاه العام يشير إلى نشوء قطب دولي جديد يسعى إلى إعادة توازن النظام العالمي ليس عبر المواجهة الصريحة، بل عبر التأسيس التدريجي لاستقلالية الجنوب.

كانت قمة بريكس في ريو دي جانيرو أكثر من مجرد لقاء سنوي، لقد كانت إعلانًا رمزيًا وفعليًا عن نضوج مشروع بريكس واتساع طموحاته ووضوح رؤيته للعالم. فالمجموعة باتت تتقاطع اقتصاديًا وتتلاقى سياسيًا وتتقدم بخطى حثيثة نحو بناء نظام عالمي بديل تعددي ومتعدد الأقطاب يعكس مصالح الأغلبية العالمية التي لطالما كانت مقصاة عن مراكز القرار. في العام المقبل ستعقد القمة السابعة عشرة في الهند، البلد الذي يتوقع أن يضخ ديناميكية إضافية في هذا المسار ويعمق التحولات التي تشهدها هذه الكتلة الصاعدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *