اخفاق وزارة التعليم العالي العراقية في بناء رؤية بحثية رصينة من تضخيم الأرقام إلى كارثة النزاهة الأكاديمية
مقدمة
شهدت مؤسسات التعليم العالي في العراق خلال السنوات الأخيرة تصاعدًا في أرقام الإنتاج البحثي، وفقًا لتقارير وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، وسط ترويج مكثف لهذا “المنجز” كدليل على نهضة أكاديمية وعلمية. غير أن التطورات الأخيرة، وعلى رأسها إدراج ثماني جامعات عراقية في قائمة RI² لمخاطر النزاهة الأكاديمية ضمن فئات “الخطر العالي” و”الراية الحمراء”، تكشف عن خلل بنيوي وفكري في إدارة ملف البحث العلمي، وتحديدًا في غياب الرؤية الاستراتيجية وضعف آليات الرقابة والضبط الأكاديمي.
أولاً: غياب الرؤية البحثية الوطنية
رغم تأسيس العديد من المراكز والوحدات البحثية، إلا أن وزارة التعليم العالي العراقية لم تطرح حتى الآن رؤية استراتيجية واضحة للبحث العلمي، تقوم على أولويات وطنية، أو أهداف إنمائية واقعية، أو حتى مواءمة بين مخرجات البحث واحتياجات الدولة وسوق العمل.
فما يُنشر من بحوث في الغالب هو استجابة لمتطلبات الترقية الأكاديمية وليس لحاجة علمية أو اقتصادية أو تنموية. وهذا ما حول البحث العلمي من عملية منتجة للمعرفة إلى سباق رقمي مفتقر إلى الجودة.
ثانياً: جهاز الإشراف والتقويم العلمي: تغليب الكم على النوع
يلعب جهاز الإشراف والتقويم العلمي دورًا مركزيًا في مراقبة جودة البحث العلمي في العراق، لكنه انحرف نحو مقاربة بيروقراطية تركز على كمية النشر، لا نوعيته. فاحتساب النقاط والترقيات والمكافآت أصبح يعتمد على عدد البحوث المنشورة، دون التفريق بين بحث أصيل منشور في مجلة محكمة مرموقة، وآخر في مجلة تم طردها من قواعد بيانات عالمية بسبب فساد أو تدني المعايير.
وكان من نتائج ذلك:
- ارتفاع معدلات النشر في مجلات مشبوهة أو تجارية (Predatory Journals).
- زيادة في حالات السحب (Retractions) بسبب الانتحال أو التكرار أو التزوير.
- غياب أي سياسة للتدقيق أو مراجعة ما يُنشر تحت راية الجامعات العراقية.
ثالثاً: هشاشة منظومة النزاهة الأكاديمية
تعاني معظم الجامعات العراقية من غياب مكاتب فعالة للنزاهة الأكاديمية أو لجان مختصة بمراجعة الأبحاث قبل نشرها. فالأبحاث تُنشر دون فحص للسرقة الأدبية، أو التحقق من أصالتها، مما خلق بيئة ملائمة للتكرار والانتحال العلمي، وصولاً إلى ما كشفه مؤشر RI².
ومن المفارقة أن معظم الجامعات المصنفة على أنها “عالية المخاطر” أو “في الراية الحمراء”، كانت قد احتلت مواقع متقدمة في التقارير المحلية لوزارة التعليم من حيث “عدد” البحوث المنشورة!
رابعاً: التناقض بين التسويق الإعلامي والحقيقة الميدانية
في الوقت الذي كانت الوزارة تُروج لارتفاع أعداد البحوث المنشورة في Scopus وWeb of Science على أنه إنجاز كبير، لم يتم التدقيق في:
- نوع المجلات التي نُشرت فيها تلك البحوث.
- نسب البحوث المسحوبة أو المتكررة أو المكررة جزئياً (Self-plagiarism).
- كفاءة الباحثين وإسهامهم الفعلي، مقابل ظاهرة شراء الأبحاث أو النشر الجماعي بلا محتوى علمي.
وهذا التضليل أدى إلى نتائج كارثية، أهمها انهيار سمعة الجامعات العراقية في المؤشرات الحقيقية لنزاهة البحث العلمي.
خاتمة وتوصيات
إن ما كشفه تقرير RI² ليس مجرد تصنيف رقمي، بل صفعة مؤلمة لنظام التعليم العالي في العراق، وجرس إنذار يتطلب:
- وضع رؤية وطنية شاملة للبحث العلمي، ترتبط بالاحتياجات التنموية للدولة.
- إعادة هيكلة جهاز الإشراف والتقويم العلمي، وتركيز معاييره على الجودة والنزاهة وليس الكمية.
- إنشاء وحدات نزاهة أكاديمية فعالة في كل جامعة، ترتبط مباشرة بمكتب الوزير.
- إلغاء العمل بالمجلات التجارية وغير المعترف بها دوليًا، وإلزام الجامعات بنشر سياساتها الخاصة بالأخلاقيات البحثية.
- مراجعة البحوث السابقة المنشورة في المجلات المشبوهة، واتخاذ إجراءات تصحيحية حازمة.
إن إعادة الاعتبار إلى النزاهة العلمية لا تقل أهمية عن أي إصلاح اقتصادي أو أمني، فهي أساس النهضة الحقيقية، لا سيما في بلد مثل العراق يمتلك طاقات أكاديمية كبيرة لكنها تُدار بآليات هشّة وقديمة.


