بعد الضربات الشرسة والعنيفة التي وجهها الجيش الاسرائيلي لحزب الله إبتداءاً من يوم 17 ايلول 2024 والى حين وقف اطلاق النار في 27/11/2024 ، هذه الضربات جعلت كثيراً من الناس – وخصوصاً من يُؤيّد ويتعاطف مع حزب الله – الى الانقسام ، باعتبار أن من يقف بالضد من حزب الله بالتأكيد سيقول أن هذه الضربات نصرٌ لإسرائيل ، أما المتعاطفون والمؤيدون لحزب الله فبعضهم يميل الى أن حزب الله هو المنتصر والبعض الاخر يميل الى أن إسرائيل هي المنتصرة ، وربما حتى الذين يميلون الى أن النصر كان لحزب الله فإن في داخلهم شيئاً من الميل للنصر لإسرائيل ، بمعنى أن شيئاً ما في قلوبهم يشير الى أن اسرائيل هي المنتصرة بسبب ما تلقّاه الحزب من قتل لقياداته وعلى رأسهم السيد حسن نصر الله – رضوان الله عليه – وباقي القيادات الميدانية والسياسية والاعلامية والمؤسسات المرتبطة بالحزب وما جرى على الضاحية الجنوبية – الحاضنة الشعبية الرئيسية للحزب – وجنوب لبنان ذي الغالبية الشيعية .
وللفصل في تلك الآراء والتمييز في معرفة مَن المنتصر في هذه المعركة نقول : لابد لنا قبل تحديد المنتصِر لابد من تحديد تعريف للنصر الذي يتم وفقه تحديد المنتصِر ، فليس من المعقول أن نعرف النصرَ على أنه النصر العسكري مثلاً ثم نعتبر المنتصر وفق النصر السياسي أو الاقتصادي ، فلا بد أن يكون المنتصر وفق النصر الذي نُعرِّفه .
إن موضوع تحديد النصر او تعريف النصر هو أمر ليس بالجديد فمن كان يتابع مرحلة الانتصار على داعش في العراق كان هناك اعلانان للنصر ، اعلان تَبنّتهُ الحكومة العراقية ( او الجيش العراقي ) وكان في تاريخ معين ( وهو يوم 10 كانون الأول 2017 ) ، أما التحالف الدولي فكان له تأريخ آخر ، والسبب هو أن تعريف النصر عند الحكومة العراقية يختلف عن تعريف النصر عند التحالف الدولي ، وبالتالي لو أن أحد الجانبين (العراقي او التحالف الدولي) لم يحقق النصر الذي يعترف به فسوف يستمر بقتال داعش الى تحقيق ذلك النصر، وإن لم يحققه فسوف لن يعتبره نصراً .
وبالتالي إذا أردنا أن نَعرِف من المنتصر لابد من تحديد نوع النصر وتعريف النصر الذي انتصر فيه ، فإن أردنا أن نعرف المنتصر عسكرياً فمِمَّا لا شك فيه ولا خلاف ولا اعتراض أن إسرائيل انتصرت عسكرياً ، او لِنقُل أن إسرائيل كانت أقل الطرفين خسارة – من الناحية العسكرية – باعتبار أن الطرفين كانت لهما خسائر عسكرية ، أما حزب الله فكانت خسائره (العسكرية المادية والبشرية ) أكثر ، وهذه نتيجة طبيعية للتطور التكنولوجي الذي يمتلكه الجيش الاسرائيلي والدعم الغربي المفتوح والدعم السياسي له – بالخصوص من قبل الولايات المتحدة مقارنة بحزب يعتبر جزءاً من دولة ضعيفة في الأصل ، وحتى لو اعتبرنا إيران تدعم الجزب بشكل مفتوح ، فإن المقارنة بين إمكانية الدعم الإيراني لحزب الله والدعم الأمريكي لإسرائيل غير متناسبة .
ولكن وفق الأبجديات الاسلامية فإن الانتصار العسكري لا يمثل الشيء الأمثل ، وتأريخنا الإسلامي زاخر بذلك ، فمثلاً في معركة أحد هُزِمَ المسلمون أمام المشركين رغم أن المسلمين كانوا بقيادة الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم ومع هذا خسروا المعركة وانتصر المشركون ، لكن هذا لا يعني أن الاسلام قد هُزِمَ ولا يعني أن الشرك قد انتصر ، ومن لا يقول بهذه الحقيقة فلا يعرف ولم يدرس ولم يعِ التاريخ الاسلامي . وكذلك في معركة الطف حيث كانت الخسارة عسكرية بكل معنى الكلمة ، حيث قُتِل الحسين عليه السلام وسُبِيَت نساؤه وحاولوا إذلالهم الى أبعد الحدود ، وأخذوهم أسارى يسيرون بهم من بلدٍ الى بلد ، فهذه هي الخسارة العسكرية .
إن معايير النصر العسكري ليست دقيقة دائماً وفق الموازين الانسانية ، لذلك لابد ان ننظر الى معيار آخر للنصر ، فمثلاً يكون النصر وفق المعيار الأخلاقي ، وبحسب هذا المعيار فإن الجيش الاسرائيلي ( والكيان الصهيوني عموماً وعلى رأسهم رئيس حكومتهم نتنياهو ) قد هُزِموا أخلاقياً لأنهم كُشِفوا على حقيقتهم وبانت معائبهم ومساوئهم وبيّن حقدهم على البشرية وعلى كل من يقف أمامهم ، فقد استخدموا أبشع أنواع الجريمة وأبشع أنواع التنكيل، واستخدموا أكبر القذائف وزناً وتفجيراً ضد ناس مدنيين عُزَّل لا وِزرَ لهم ، فهؤلاء المدنيون حتى وإن كانوا مؤيدين للمقاومة في حزب الله او حتى حماس فهذا لا يعني أن يُقتَلوا بهذه الطريقة البشعة وهم لا يحملون سلاحاً ، فما ذنب الاطفال والنساء الذين يشكلوا حوالي 75% من الضحايا في غزة ؟
إن اسرائيل لو التزمت بالمبادئ الاخلاقية والانسانية للحرب لما تمكنوا من التقدم متراً واحداً ، وإن تقدموا فسيحتاجون الى سنوات لتحقيق ذلك ، لكنهم لم يكن لهم أي خط أحمر إنساني او خط أحمر قانوني أو خط أحمر سياسي ، لذلك هم مهزومون ولم ينتصروا أخلاقياً ، بينما في الطرف المقابل كان حزب الله قد انتصر اخلاقياً ، فرغم أنهم استهدفوا آلاف الصواريخ لضرب المقرات والمنشآت العسكرية الاسرائيلية داخل الكيان الصهيوني إلا أنهم لم يستهدفوا مقرات او مجمعات سكنية لمدنيين الا بالخطأ وبنسبة ضئيلة جداً قد لا تتجاوز الخمسة بالمئة ، رغم أنهم بأمسّ الحاجة للضغط على اسرائيل بهذه الطريقة للضغط على الكيان ، فلو استخدم الحزب قتلَ المدنيين كمعادلة كردع مُعادِل لتمكّنوا من إجبار اسرائيل على التراجع منذ البداية ، لكنهم فضّلوا النصر الأخلاقي على النصر العسكري ، خاصة وأنهم فقدوا الأعزة والأحبة ، وعلى رأسهم السيد حسن نصر الله الذي كان يمثل الرمز الذي لا نظير له عندهم ، الذي قضى نصف عمره في الحزب وقيادة الحزب ، ومع هذا حافظوا على المبادئ الاخلاقية التي تربّوا عليها .
أما لو أخذنا النصر من زاوية غيبية او معنوية او روحية فإن النصر كان من حليف حزب الله ، لأن النصر الحقيقي في الثقافة الاسلامية هو النصر على النفس الأمارة بالسوء ، وقد انتصروا عليها من خلال التضحية بالنفس من أجل الاسلام والمسلمين ومن أجل الارض والعرض ، فهذا نصرٌ ، والنصر الثاني الذي حققة حزب الله هو الفوز بالآخرة ، إذ أن تفكيرهم بالنصر العسكري لم يشغلهم عن التفكير بالشهادة ، لأن ثقافتهم ترى النصر العسكري هو إحدى الحُسنَيين الى جانب الشهادة ، ومثل هذا النصر لا يفقهه غير المؤمنين ، لذا نرى الجنود الصهاينة يبكون بسبب ضربات حزب الله ، فعندما ترى جندياً يبكي فتعرف مدى الهزيمة التي يعيشها هؤلاء الجبناء ، فإذا كان الجندي المدجج بالسلاح والذي يفترض أنه أشجع من المدنيين يبكي فكيف حال المدنيين؟!