الملخّص
في الأسابيع الأخيرة، طُرحت فكرة تشكيل إقليم شيعي مستقل من قبل بعض السياسيين الشيعة العراقيين المنتمين إلى المقاومة، مما أثار دهشة وردود فعل من بعض السياسيين السنة. في بداية مارس الجاري، كان نوري المالكي أول شخصية قال في مقابلة تلفزيونية: «الشيعة سينفردون بالنفط إذا تم إجبارهم علی التقسيم». و في سياق مشابه، هدد النائب حسين مؤنس عن کتائب حزب الله العراقي بـ «إستقلال 9 محافظات إذا استمر ما وصفه بإبتزاز الشيعة». هذه التصريحات، بعد مرور أسابيع، لا تزال تواجه ردود فعل متعددة من عدد من السياسيين السنة. ربما كان أبرزها تصريح محمود المشهداني، رئيس البرلمان، الذي قال: «من يطرح فکرة إنشاء إقليم شيعي يجب أن يکون علی دراية بمسار نهري دجلة و الفرات». هذا الرد التهديدي كان موجهاً بوضوح إلى تصريحات المالكي، حيث إذا كان الشيعة يملكون ورقة النفط الرابحة، فإن أهل السنة (والكرد أيضاً) يملكون ورقة الماء التي يمكن استخدامها كأداة ضغط ضد الإقليم الشيعي.
أهمية فكرة الإقليم الشيعي
تكمن أهمية الفكرة التي طرحها بعض السياسيين الشيعة في أنها ربما تكون أكثر المطالبات جدية بتشكيل إقليم شيعي منذ سنوات، ويتم طرحها من قبل شخصيات شيعية بارزة. حتى الآن، كان العرب السنة هم من تحدثوا في مناسبات عدة عن تشكيل إقليم سني بسبب شعورهم بالتهميش، مستخدمين ذلك كأداة ضغط ضد الأحزاب الشيعية والحكومة المركزية، وهو أمر لاقى مؤيدين ومعارضين بين السنة أنفسهم بسبب التحديات والأهداف المرتبطة به. في المقابل، وصف الشيعة فكرة الإقليم السني بأنها انفصالية وتتعارض مع الوحدة الوطنية وسلامة أراضي العراق.
لماذا طُرحت فكرة الإقليم الشيعي الآن؟
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا تُطرح فكرة انفصال المحافظات الشيعية في شكل إقليم شيعي في الوقت الحالي؟ يمكن النظر إلى عدة سيناريوهات في هذا الصدد.
الدوافع السياسية:
الانتخابات البرلمانية المقبلة في العراق والمنافسة الشديدة والحساسة داخل البيت الشيعي تشكل دافعاً كبيراً لإطلاق أي شعار أو فكرة لجذب انتباه الناخبين من خلال طرح مطالبات تظهر أصحابها كمدافعين عن حقوق الشيعة، خاصة في المناطق المحرومة في الوسط وجنوب العراق. التيار الصدري، الفائز الأول في انتخابات 2021 وأقوى تيار شيعي في تعبئة الجماهير، أنهى عزلته السياسية، مما أثار قلق منافسيه الانتخابيين بشكل كبير. جميع هذه التيارات والمجموعات تسعى الآن لتأكيد هيمنتها على المناطق الوسطى والجنوبية. في هذا السياق، هناك تنافس قوي بين التيار المقاوم والإسلامي (مصممو فكرة الإقليم الشيعي) والتيار القومي الشيعي الذي يقدم نفسه صاحب القرارات البعيدة عن التدخلات الخارجية (التيار الصدري وبعض القوائم المحلية).
الضغوط والميول الإقليمية:
أحد السيناريوهات هو رغبة إيران في وجود إقليم شيعي. إقليم شيعي قريب ومتوافق مع إيران، حيث تملك نفوذاً سياسياً ودينياً واقتصادياً داخله، قد يوازن الدور البارز للدول العربية السنية وتركيا في العراق بشكل عام وفي المناطق السنية بشكل خاص، خاصة بعد تراجع نفوذ طهران في سوريا. لكن هذا الموضوع يبقى سيناريو نظرياً، لأن التهديدات والتحديات الناتجة عن تأسيس إقليم شيعي في العراق بالنسبة لإيران تفوق فوائده. من بين التحديات تعزيز خطاب الانفصالية في جميع المناطق المعرضة لذلك في المنطقة. الكرد والسنة العرب أيضاً، مع تشكيل إقليم شيعي مدعوم من إيران، سيتخذون قرارات مماثلة في هذا الإطار. التحدي في العلاقات بين إيران والحكومة المركزية العراقية والمشاكل المحتملة الناتجة عن ذلك ليست أموراً يمكن التغاضي عنها بسهولة. لذا يبدو أن تحديات تشكيل الإقليم الشيعي بالنسبة لإيران تفوق الفرص المتاحة، وربما لا تدعم طهران هذه الفكرة عملياً.
الدوافع الاقتصادية:
رغم أن المحافظات الوسطى والجنوبية تمتلك ثروات نفطية وغازية هائلة، إلا أن الإحصاءات تظهر أن هذه المناطق ظلت الأكثر حرماناً والأعلى في نسب الفقر في البلاد. توزيع الثروة والموارد العامة لم يكن عادلاً على الإطلاق في جميع أنحاء العراق. لذا، يمكن أن يؤدي تشكيل إقليم شيعي إلى زيادة إيرادات النفط والغاز لهذه المناطق، ويصبح بمثابة ضمان لاستقلالها الاقتصادي. بدلاً من توزيع هذه الإيرادات في جميع أنحاء العراق، يمكن إنفاقها في الإقليم الشيعي، مما يؤدي إلى تحسين شبكات النقل والموانئ والمطارات وتعزيز شبكات المياه والكهرباء والصناعات المحلية. علاوة على ذلك، كما في إقليم كردستان، يمكن أن يشجع ذلك المستثمرين الأجانب ويقلل من نفوذ المركز في شؤونه الاقتصادية. لكن تحقيق هذا السيناريو يعتمد على عوامل سياسية وداخلية وإقليمية متعددة، ولا شك أنه يواجه تحديات جدية في التنفيذ.
التهديد الوجودي:
طرح فكرة الإقليم قد يكون نتيجة قلق بعض السياسيين والمجموعات الشيعية من التطورات الإقليمية الأخيرة التي أظهرت نفسها في شكل ضغوط غير مسبوقة ضد محور المقاومة. سقوط نظام الأسد المفاجئ، الظروف المعقدة التي يواجهها حزب الله اللبناني، الضغوط الكبيرة على إيران، التهديدات المطروحة بشأن تغيير النظام السياسي التي تُثار أحياناً من داخل العراق وخارجه، الضغوط لتفكيك فصائل المقاومة وحتى الحشد الشعبي أو تغيير هيكليته، سلوك ترامب ومستشاريه ومرافقيه تجاه العراق، الشائعات حول فرض عقوبات على بعض القادة السياسيين الشيعة ومواردهم المالية، وحتى تصفية بعض قادة الفصائل، كلها مخاوف يعتبرها هؤلاء السياسيون تهديدات وجودية خطيرة وغير مسبوقة ضد الطائفة الشيعية في العراق (أو ضد السياسيين الشيعة).
داخليا، تراكم الصراع الشديد حول المصالح في السياسات المختلفة، خاصة في مجال السياسة الخارجية، التي ظهرت بشكل أوضح خلال العام الماضي، وتقييد خيارات وصنع القرار لدى بعض التيارات الشيعية بسبب وجود لاعبين داخليين آخرين يتحركون ضمن منظومة اللاعبين الإقليميين والخارجيين، يندرج ضمن هذا السياق. وفقاً لبعض مصممي فكرة الإقليم، فإن تشكيل إقليم شيعي، أو على الأقل التهديد بطرحها وتنفيذها، يمكن أن يكون حلاً لهذه التهديدات والتحديات غير المسبوقة.
يجب الأخذ في الاعتبار أن فكرة إقليم أو دولة شيعية مستقلة لا تعني بالضرورة نية حقيقية للانفصال وتنفيذه. بل يمكن أن تكون نية المصممين خلق أداة ضغط في المفاوضات والحوارات الداخلية، ورسالة إلى الأطراف الاقليمية لإثبات القوة والقدرة وامتلاك مجموعة من الخيارات. الانفصالية الشيعية العراقية، في ظل الخلافات الكبيرة بين الأحزاب والمجموعات والتيارات السياسية والاجتماعية الشيعية المتنوعة، تبدو حالياً أشبه بمناورة سياسية أكثر من أي شيء آخر. عادةً ما تُطرح أفكار الانفصال أو الحكم الذاتي من قبل الأقليات، ومن هذا المنظور، فإن طرح هذا الموضوع من قبل الشيعة، الذين يشكلون الأغلبية السكانية في العراق، يعتبر أمراً فريداً. ومع ذلك، فإن هذه الفكرة ولدت في القاموس السياسي العراقي، وأصبحت تقف إلى جانب مفاهيم مثل الإقليم السني أو الدولة الكردية، ومن المحتمل أن تتكرر في المستقبل من قبل بعض السياسيين الشيعة مرة أخرى.