Search
Close this search box.

ما مدى حاجتنا الى الدين في عصر الآلات الذكية ..؟

ما مدى حاجتنا الى الدين في عصر الآلات الذكية ..؟
في المجتمع العربي تعطلت حركة الدين في تحديث المنظومة البشرية بسبب إقتصار ارتباط الفرد بدينه في حدود معاناته وحاجاته...

لا يوجد مجتمع الا وله دين ، أو هو يبحث له عن دين . وما من شخص الا وله شعور ديني  يتباين من شخص الى اخر ، فقد يكون متذيذباً أو مخفياً أو متخذاً نمطاً معيناً ، وقد يكون واضحاً منذ البداية ، أو يظهر في فترة من عمر الإنسان ..

التغير هو التحولات التي تطرأ على المجتمع ووظائفه وهو صفة أساسية من صفات المجتمع ، فلا يختلف مجتمع عن اخر في ذلك ، الا في درجة التغير ، وفي ضوء ذلك يُنظر الى مجتمعاتنا العربية والاسلامية على انها مجتمعات متأخرة ، بينما حظيت مجتمعات اخرى بصفة المتقدمة .

اخذ بعض الباحثين هذا التفاوت في درجات التغير الإجتماعي فعللوا أسباب تأخر مجتمعاتنا بوجود الدين ، لذا دعا بعضهم الى فصل الدين عن الدولة ، ودعا اخرون الى التدين الفردي حيث كل شخص حر في طريقة تدينه ، وله حق اظهار ذلك الشعور الديني أو عدم اظهاره ، ودعا بعضهم الى إعادة تعريف الدين وفصله عن الهوية الثقافية الاجتماعية ..

إننا نبحث في الدين من خلال علم الإجتماع الديني ، حيث علاقة الدين بالمجتمع ، وتأثير الدين في المجتمع ، وعلاقة الفرد بالدين، وعلاقة الدين بالهوية ، وبناء الذات ، وتكوين الشخصية ، ولا نتطرق الى الدين ، من حيث هو علم فقه أو علم كلام .. ونتناول علاقة الفرد بالأسرة والأسرة بالمجتمع ، وعلاقة المشاكل الاسرية والفردية بطبيعة المجتمع ، وارتباط ذلك بالهوية الثقافية للمجتمع في ظل التطور التقني المتسارع في القرن الواحد والعشرين ..

اذا كان الفلاسفة وعلماء الإنثروبولوجيا وعلماء الإجتماع يدرسون تغير المجتمع من أجل مزيد من العدالة الإجتماعية ، والرفاهية الاقتصادية ، والتوازن الاجتماعي ، فإننا معنيون في ضوء ذلك بتسليط الاضواء على ما يترتب على التغيرات التي طرأت على مجتمعنا في العقدين الأخيرين ، حيث تعرّض المجتمع الى جملة ظغوطات وأحداث ، إجتمعت لتكون محلية ، واقليمية ، ودولية ، وكوارث طبيعية . فمع ما رافق البلاد من أحداث مضطربة جرّاء التحول السياسي والإداري ودخول مرحلة الإحتلال الأمريكي ثم مرحلة الإرهاب ومرحلة التحديث الإقتصادي ، ثم الإنكماش الإقتصادي وسوء الادارة ، الأمر الذي القى بضلاله على مرافق الحياة الإجتماعية ، إذ ظهرت حالات من الضعف والفقر والبطالة والتردي التعليمي والتراجع الصحي وازدياد الفجوة بين السلطة والمجتمع الى الحد الذي اصيبت به الثقة بالأذى البليغ وتهددت الشخصية العراقية في توازنها واستقرارها واصبحت سنوات التغيير السياسي والإداري والإنفتاح العالمي مدعاة للقلق ومصدر للخوف على سلامة مستقبل البلاد والمجتمع في ظل هكذا فوضى .

يستجيب المجتمع عادة للتيار الأقوى الغالب على طبيعة المشهد الحياتي للناس ، ومن بين التيارات التي عصفت بالبلاد خلال العقديم الأخيرين يبرز تيار مثير دعانا الى البحث في هذا الموضوع ، انه تيار الإنفتاح العالمي ومشاريع الإقتصاد الصناعي السياسي العالمي حيث الشركات العابرة للقوميات والمشاريع العملاقة التي تتجاوز اللغة والدين والجغرافية والسياسة وتتيح لكل شخص حرية دخول السوق العالمية من أجل التجارة والإستثمار .

قد لا يدعو الأمر في ظاهره الى القلق ، لكن التعمق في تفاصيل هذا العالم ستكشف لنا كثيراً من دواعي القلق وضرورة البحث ، فمن تلك القضايا وجود جهود عالمية لدمج المجتمعات المتأخرة في النسيج العالمي . ذلك النسيج الذي تقف وراءه ثقافة غربية ولغة غريبة عن طبيعة مجتمعنا . فمن خلال الخطوات الواسعة في مجالات تطور التقنية ، يبدو ان مستقبل العالم سيقوم على غير المعايير التي اعتادها الناس في السابق ، إذ ان حقول الذكاء الإصطناعي ، وفضاء البيانات ، وإدارة العالم الإفتراضي ، ستكون في مقدمة ما تتصارع على إمتلاكه قوى العالم ، بعد ان كانت الترسانة العسكرية والتقنيات الحربية في المرتبة الأولى . يخضع هذا الحال الى الإمكانات الإقتصادية ، فكلما كانت كبيرة ، كانت فرصة الفوز بسباق التسلح الجديد أوفر . تذهب معطيات الواقع الى تصدر امريكا والصين واليابان وعدد قليل من الدول الأخرى هذا السباق .

يستطيع الإنسان بواسطة العلم ان يتجاوز الألم والمعاناة ، وان يكون سعيداً . لكنه سيشعر بالملل بعد حين من الدهر ، ولن يكون بوسعه ان يعيش الامل إلا من خلال الدين ..

في المجتمع العربي تعطلت حركة الدين في تحديث المنظومة البشرية بسبب إقتصار ارتباط الفرد بدينه في حدود معاناته وحاجاته ، واذا أخذنا بنظر الإعتبار إن المعاناة والإحتياجات في عصر التقنية تختلف عنها في ما مضى من الوقت ، فإن الفقر لم يعد يعني حاجة الفرد الى الطعام واللباس والسكن ومصدر عمل ، انه اليوم يعني عدم القدرة على الحصول على دار اكبر من التي يملكها ، او على موبايل أحدث من الذي يستخدمه ، أو على طعام أرقى من الذي يأكله .

لقد تمكن العلم من تقليل نسب الموت بسبب الجوع ، حين صار بمقدور كل جائع ان يجد ما يأكله ، لكن طبيعة الحياة اليوم جعلت الفقر يتخطى بطن الجائع ليصل الى نفسه وهو يرى عروض الوجبات السريعة وصور الأكلات التي يسيل لها لعابه فيتحسر ويتضور حظاً بعد ان كان يتضور جوعاً . عكس بعضهم ذلك على علاقته بالدين ، وتساءل : هل يقدر الدين ان ينقذه من فقره وآلامه في هذا العصر ؟ وهل يكفي الإيمان الفردي للشخص كي يتجاوز إغراءات العصر وفتنة التقنية وسحر الشاشات الملونة وطواعية ازرار التحكم في تنفيذ اوامره ؟ وهل هناك حاجة لوجود الدين بوجود اجهزة ذكية تقدم حلولاً لكل مقبولة وسريعة لكل شيء.؟

تبدأ أولى خطوات تراجع العقل الإنساني عندما يتنازل تماماً عن ذاكرته لصالح حاسوبه الشخصي ، او موبايله الخاص ، ويتخلى عن إثبات قدراته الذهنية . ان التفكير الرقمي شكل من أشكال أتمتة العقل الحي ، وهذه سابقة خطيرة في تاريخ الفكر .

لا يخلو عصر التقنية من الإيمان ، لكنه إيمان فني ، تقني ، آلي ، عضوي ، لا مكان فيه للروح . ليس لسبب سوى ان بحوث العلماء وتجاربهم المختبرية وحساباتهم المادية ومعادلاتهم الرقمية لم تثبت لهم وجود هذه الروح .. فما يخشى منه في عصر الآلات الذكية هو ان تتمكن ادوات التقنية المتطورة من إقناع الفرد المسلم انه اذا اراد ان يواجه عملاً منكراً أو سيئاً ويغيره ، يكفيه ان يقوم بكبسة زر على لوحة مفاتيح موبايله الخاص في منصات التواصل في الفضاء الرقمي فيتصور بذلك انه صار مصداق قول النبي الخاتم صلى الله عليه واله : من رأى منكم منكراً فليغيره بيده …

يضع الدين إيمان الفرد كمادة لتجديد منظومته الحياتية ، فبالإيمان تستطيع ان تحدد موقعك على خارطة الوجود ، ومنها تراقب بإيمانك تحركاتك ، فتميز بين طريقي الخير والشر ، فالدين أفضل طريقة لإتقان لغة الإنسانية ، والعلم أفضل طريقة لتطوير هذه اللغة .. لقد دعا الدين الى حالة من التوازن في طلب العبادة وطلب العلم في الحديث النبوي ( اطلبوا العلم طلباً لا يضر بالعبادة ، واطلبوا العبادة طلباً لا يضر بالعلم ) ، فالإنسان هو الكائن الحي الوحيد المعني بفهم الدين ، فهو بفطرته يرى الحياة بعين شهوته ، وجاء الدين ليهذب تلك الفطرة في إطار تشريعي . ثم جاءت علّة الخاتمية ليكون الإنسان مسؤولاً عن تمكين نفسه ثقافياً ، فالثقافة في ضوء التهذيب الديني لفطرة الشهوة تجعل الإنسان المثقف يرى الحياة بعين الجمال والإبداع .

يرتبط تطور وعي العقل الإنساني بفهمه لدعوة توحيد الله سبحانه وتعالى ، فإذا فهمت هذه الدعوة على انها تعني وحدة مصدر الحقيقة ، تهيأت للعقل فرصته الكبرى للوعي الموضوعي ، واذا اقتصر فهم دعوة التوحيد على انها ضد فكرة تعدد الآلهة ، اضطربت حركة تطور العقل ، وعادة ما يكون حديث النفس أقرب الى الشخص من حديث العقل ، لذلك يخسر القلب الإنساني جزءاً حيوياً مهماً من قيمة وجوده حين تقتحم النفس الفارغة محراب العقل .

وإذا إستطاع الإنسان ان يحدد مصيره من خلال العلم في عصر الآلات الذكية ، فإنه لن يستطيع ان يسيطر على ذلك المصير إلا من خلال الدين .

One Response

  1. حياكم الله استاذ عدنان حقيقة موضوع شيِّق وجدير بالقراءة سلِم اليراع ودام البنان والبيان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *