يُقال في أساطير الشرق إن الإنسان حين يُولد، تضع السماء في صدره جوهرة من نار، لا تُرى بالعين، ولا تُمسّ باليد، لكنها تضيء كل ما حوله إن شاء لها أن تتوهّج.
وتلك الجوهرة هي الروح… وقد أوكلت له السماء حفظها كما يُوكَل للملوك تاجهم.
ومنذ اللحظة الأولى، تمضي الروح معه مثل طائر خرافي بديع الجناحين، لا يعرف السقوط إلا إذا أمره صاحبه بذلك.
وتحكي الحكايات القديمة أن هذا الطائر يهمس لصاحبه كل فجر:
“لديك روح واحدة فقط… فأي أسطورة تريد أن تُكتب بها؟”
لكن الإنسان كثيرًا ما ينسى.
ينسى أن الروح ليست ساحةً للظلم، ولا أرضًا تُحرث بالذل، ولا مرآةً يعلوها غبار الخوف.
فالروح خُلقت لتكون رمحًا في ساحة الحق، لا غصنًا ينحني للباطل.
وفي الأساطير أن الجبال التي تشهد على خطى البشر تحفظ أسماء الذين مشوا عليها برؤوس مرفوعة؛
تحفظ أسماء الذين لم يبيعوا نورهم،
الذين إذا مرّ عليهم الليل، أضاءوا صدورهم كما تضيء المدائن المصابيح في مواسم الانتصار.
يُقال أيضًا إن الريح — وريثة الأسرار القديمة — تعرف مَن عاش بروحه حرًّا، ومن سلمّها قيدًا لسيدٍ لا يستحقّها.
فحين يرحل إنسان عظيم، تهبّ الرياح ببطء، كأنها تسلّم عليه،
وحين يرحل من ضيّع روحه، تمرّ الرياح حوله صامتة،
كأنها لم تجد فيه أثرًا يستحق الذكر.
والإنسان الذي يفهم أن لديه روحًا واحدة، يصبح كقائد أسطوري في ساحة معركة كونية،
لا يحمل إلا درعًا من الإيمان،
وسيفًا من الموقف،
وقلبًا لا ينحني إلا لله.
فلا يرضخ لطاغية،
ولا يُسخّر جوهره لخدمة الظلم،
ولا يسمح لظلام أن يطفئ الجوهرة التي يحملها في صدره.
إنّ الروح، إذا أُهينت، لا تصرخ…
لكنها تصبح كـ فارسٍ عظيم، نزع عنه ملكه، ينتظر من صاحبه أن يعيده إلى عرشه.
وإذا أُكرمت، تتوهّج كـ تنينٍ من نور، يحرس صاحبه من الضعف، ويمدّ بصيرته بنارٍ لا تنطفئ.
وما أروع أن يحسن الإنسان اختيار نهاية روحه—لا نهاية الجسد—
بل الصورة الأخيرة التي ستُعلّق على جدران التاريخ له.
فمن الناس من يخرج من الدنيا كعابر ظلّ، لم يترك خلفه سوى حفنة غبار،
ومنهم من ترحل روحه وتخلّف وراءها نقشًا على صخرة الوجود،
لا تمحوه الأمطار ولا العصور.
فلتكن روحك—ما دامت واحدة—
كجبلٍ يقف ولا يركع،
كصقرٍ لا يصطاد إلا المعنى،
كنيزكٍ يضيء ظلمة السماء ولو لثوانٍ؛
فالضوء لا يُقاس بطوله بل بصدقه.
واجعل بينك وبين الله عهدًا لا تكتبه يدٌ من تراب،
بل تكتبه الروح نفسها:
أن تبقى عالية، نقية، ثابتة،
تُدافع عن الحق، وتُعانق المعنى،
وتُعاد إلى بارئها كما تُعاد هدايا الملوك: مصونة، مشرّفة، لا شائبة فيها.


