النوم… ذلك الموت الصغير الذي نذهب إليه طائعين

النوم… ذلك الموت الصغير الذي نذهب إليه طائعين
النوم رحلة غامضة تسلّم فيها الأجساد وتسبح الأرواح بلا حدود، يفرضها ناموس الكون على جميع الكائنات، فيعلّمنا حدود سيطرتنا ويذكّرنا بأننا بحاجة للتسليم للغيب كي نستمرّ، رغم دهشة الغموض الذي يكتنفه كل مساء....

كأن الليل حين يهبط، يفتح لنا بوابة غامضة لا نعرف أين تؤدي، لكنه مع ذلك يطالبنا جميعاً بالعبور. وما النوم إلا طقس تسليم غريب، إذ نضع رؤوسنا على المخدة كما يضع المسافر حقيبته قبل الرحلة، ثم نغلق أعيننا لنوقّع بعقود غير مكتوبة مع قوة خفية تتولى أمرنا.

فنحن، حين ننام، لا نفعل سوى أن نسلّم أجسادنا لثباتٍ يشبه موتاً صغيراً؛ ثبات يجعل الجسد ثقيلاً كالصخر، فيما الروح تنفلت بخفة غيمة، تُبحر في سماوات لا نعرف منها شيئاً. من قال إن السفر يحتاج قدماً؟ الروح في النوم تسافر بلا جواز، بلا حدود، بلا منطق زمني أو واقعي. فجأة نجد أنفسنا في مشاهد لا تشبه قوانين النهار: أحلامٌ تمتد كجزر مضيئة، أو كوابيس تتدلى كظلال مائلة.

والعجيب أنك لا تدري كيف خرجت منها، ولا كيف عدت إلى جسدك. بين آخر لحظة وعي، وأول لحظة يقظة، فجوة لا يمكن تفسيرها. وكأن النوم يرفعنا من صفحة العالم ثم يعيد إسقاطنا عليها بعد ساعات دون أن يشرح لنا ما حدث في تلك المسافة التي لا تُقاس بالزمن.

لهذا أحياناً يخيفنا النوم. ليس خوفاً مباشراً، بل رهبة من ذلك التسليم القسري، من ترك المقود لقوة لا نراها. فحين تضع رأسك على وسادتك، أنت لا تستسلم للراحة فقط، بل تتخلى عن سيطرتك على نفسك، منتظراً أن تستيقظ… أو أن يوقظك شيء ما. لا تعرف متى، ولا كيف، ولا ماذا ستحمل لك تلك الرحلة الليلية من صور.

ومع ذلك، ورغم كل دهشة النوم وغموضه، هو جزء من الناموس الكوني. فرضته الحكمة الإلهية على كل كائن حي: البشر، الطيور، الحيوانات، وحتى الأشجار ترتخي أغصانها وتخفض نسغها في ليلها الخاص. النوم ليس ضعفاً، بل قانون تكويني رُسم لنا منذ لحظة الخلق. لولاه لتشققت الأرواح من فرط السهر، ولانهار الجسد تحت وطأة وعي لا يهدأ.

أنا لا أحب النوم كثيراً، ليس كرهاً، بل لأنني أرى فيه عالماً لا أملك مفاتيحه. ولكنني أدرك أنه باب لا بد من عبوره، وأنه قدر يشملنا جميعاً، يشبه الشهيق والزفير، يشبه دوران الأرض، يشبه نفَس البحر بين موجة وأخرى. هو واجب كوني ينادي فينا كل مساء، فلا نجد مهرباً منه.

النوم، في النهاية، درسٌ صامت في الفلسفة: يعلّمنا أن هناك لحظات لا نملك السيطرة عليها، وأننا مهما بلغنا من قوة أو معرفة، نبقى مخلوقات تحتاج أن تغلق أعينها كي تستمر. وما بين تلك الإغماضة واليقظة، عالم كامل لا يُرى إلا بالروح، عالم لا نعرفه، لكنه يعرفنا جيداً… ويعيدنا كل صباح دون أن نعرف كيف ولماذا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *