عطشٌ انتخابي

عطشٌ انتخابي
تكشف الأزمة المائية في شطّ العرب تداخل الإهمال السياسي وضعف التمثيل، فيما تقود الملوحة وغياب الإدارة المستدامة إلى تفاقم المعاناة. وتبرز الحاجة لإرادة جادة، وحوكمة مائية مستقلة، وتمثيل فعّال يعيد للقضاء حقه المهدور....

باتت أزمة ماء شطّ العرب واحدة من أكثر القضايا التي تكشف التداخل المركّب بين الإهمال الإداري والاضطراب السياسي وغياب التمثيل الحقيقي للناخبين ، فالقضاء الذي طالما حملته الحكومات على اليافطات أو الاعلانات بوصفه (منطقة المشاريع الكبرى) لم يحصل في الواقع إلا على مشاريع تُشبه الوعود الانتخابية! تلمع من بعيد وتتآكل من قرب وتُنسى فور الإعلان عنها .

إذ لم تعد المشكلة محصورة في ملوحة المياه أو شحّها ، بل تجاوزت ذلك إلى خللٍ بنيوي يتمثل في افتقاد شطّ العرب لصوت نيابي أو محلي قادر على تمثيله والدفاع عن حقوقه ، ففي الانتخابات السابقة ذهبت (80%  من أصوات القضاء إلى مرشحين من خارجه) بينما تشتتت نسبة الـ(20% المتبقية) بين مرشحيه المحليين “أبناء القضاء” لتتحول العملية الانتخابية إلى ما يشبه (التصويت التضامني) لا (التصويت السياسي) وهو ما استغلّته الكتل الكبيرة بدهاءٍ محسوب  فكان تشتيت الأصوات جزءاً من لعبة الاحتواء ، لا خطأً عفوياً في الحسابات .

هذه الحقيقة تُفضي إلى نتيجة واضحة (لا توجد إرادة سياسية لمعالجة أزمة المياه طالما لا يوجد ممثلٌ حقيقي يطالب بها) فالكتل التي تعمل على تشتيت الأصوات هي ذاتها التي تمتلك أدوات القرار ، وهي التي تستفيد من استمرار الأزمة بوصفها ملفاً يمكن تفعيله وقت الحاجة ، وتعطيله حين الضرورة ، وهكذا بقي شطّ العرب ساحة لخطابات أخلاقية في موسم الانتخابات ، وساحة صمتٍ مطبق في المواسم الأخرى .

أما أزمة ملوحة الماء فهي الأكثر رسوخاً ، إذ تمتد جذورها إلى ثمانينيات القرن الماضي ، حين بدأت آثار الحروب الإقليمية وموجات الجفاف وتراجع الإطلاقات المائية تتراكم شيئاً فشيئاً ، تلت ذلك حقب سياسية متعاقبة انشغلت كل واحدة منها بقضايا أكبر من ملف المياه ، أو هكذا كانت تدّعي إلى أن صار الملف واحداً من (التراث الإداري المنسي) ولعل المفارقة أن قضاء شطّ العرب من المناطق المائية أصلاً (أي تحيط به المياه تقريباً من جميع الجهات) إلا أنه أصبح أكثر عطشاً من المناطق الصحراوية التي تعتمد بطبيعتها  على مصادر بديلة كحفر الآبار .

الحلول المقترحة :

إن معالجة الأزمة لا تتطلب جهوداً خارقة بقدر ما تتطلب إرادة (سياسية صادقة) وتخطيطاً اقتصادياً قائماً على الاستدامة وليس على (مواسم الإنجاز) ويمكن تلخيص مسار المعالجة في خمسة محاور أساسية هي كالتالي :

1.التحول الاستراتيجي إلى تحلية مياه البحر: فالدول المجاورة من الكويت إلى السعودية وحتى إيران لم تنتظر السماء كما ننتظرها نحن ، بل صنعت حلولها عبر منظومات تحلية ضخمة ، مكّنتها من تحقيق أمن مائي مستقر ، والبصرة تمتلك القدرة الجغرافية والمالية لإنشاء مشاريع مشابهة ذات طابع اقتصادي طويل الأمد .

2.وضع منظومة إدارة مائية مستقلة وشفافة:  ترتبط مباشرة بالحكومة المركزية وتُحصّن من التدخلات الحزبية وتُعنى بالتخطيط والتوزيع والصيانة ، مع اعتماد أنظمة المراقبة الحديثة وتقليل الفاقد المائي الذي يلتهم حصة كبيرة من الإمدادات المتاحة .

3.معالجة التعديات على الأنهر والبدالات وسرقة الحصص المائية :  عبر تحويلها من مخالفات بسيطة إلى جرائم اقتصادية يُحاسب مرتكبوها بالقانون ، فاستعادة المياه تبدأ باستعادة هيبة الدولة في إدارة مواردها .

4.ربط البصرة بخطة الأمن المائي الوطني : بحيث لا تُترك للمساومات السياسية أو تغير الوزراء ، بل تتضمن مشاريع استراتيجية ثابتة ضمن رؤية وطنية شاملة .

5.اختيار ممثل واحد قوي وواضح الانتماء للقضاء : يمثل شطّ العرب في مجلس النواب ومرشح آخر يمثله في مجلس المحافظة ، ويكون مسؤولاً أمام الناس لا أمام (مركز القيادة الحزبية) فالمشكلة لم تكن يوماً في قلة المشاريع المقترحة ، بل في ((غياب من يتبناها بصدق)) .

الخاتمة:

إن أزمة ماء شطّ العرب ليست أزمة موارد بل أزمة إرادات ، فالماء لا يعاند أحداً لكنه يعكس بمرارة ما يمرّ به الواقع السياسي من ترهل وتشظٍ وفقدان صوت موحد ، وإن كان الملح قد صمد أربعين عاماً  فذلك لأن الخطاب السياسي هو الذي ظلّ مالحاً أكثر منه .

ولذلك فإن الأمل الحقيقي يبدأ من (صندوق الاقتراع قبل أن يبدأ من صندوق الماء) فمن لا يدافع عن حقوق القضاء لا يستحق أصواته ، ومن لا يعرف ثمن العطش لا يعرف قيمة التمثيل .

ويبقى السؤال الأهم  هل يبقى شطّ العرب سجين العطش السياسي؟ أم يجد أخيراً من يرفع صوته نيابةً عنه… قبل أن يغتاله الصمت؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *