من يتابع الخطاب السياسي لقادة الإطار التنسيقي في العراق، يلحظ بوضوح حجم التناقض الصارخ بين ما يقولونه قبل الانتخابات وما يفعلونه بعدها. فقبيل كل استحقاق انتخابي، يعلو صوت الخطاب الطائفي ويُفتح باب التخوين على مصراعيه، لتبدأ الاتهامات تطال قادة السنة والأكراد على حد سواء، فيُتهم هؤلاء برعاية الإرهاب أو التآمر مع الخارج، وتُعاد نغمة “عودة البعث” و”الخطر السني” في مشهد بات مكرراً ومكشوفاً لكل العراقيين.
قبل الانتخابات: استعراض بالشعارات
لقد اعتاد العراقيون مع كل موسم انتخابي أن يشهدوا تصاعدًا في لغة الانقسام والتأزيم. فبدل أن يُقدّم السياسيون برامج واضحة تعالج مشكلات الفقر والبطالة وتردي الخدمات، نراهم يلجؤون إلى تعبئة الشارع طائفيًا وإحياء ذاكرة الصراع من أجل كسب الأصوات. هذا الأسلوب الرخيص في السياسة لم يعد خافيًا على أحد، إذ يتم استحضار الخطاب المذهبي كأداة جاهزة لتخويف الجمهور وإبقائه في دائرة الولاء العاطفي لا العقلي.
والغريب أن هؤلاء القادة أنفسهم يدّعون الحرص على وحدة الصف الوطني، بينما يمارسون أقصى درجات الشحن الطائفي في خطبهم ووسائل إعلامهم، في الوقت الذي يُفترض فيهم أن يكونوا قدوة في التهدئة والمسؤولية الوطنية.
سلاح التخوين وإهانة الخصوم
لقد وصل الأمر ببعض قادة الإطار إلى استخدام أوصاف غير لائقة بحق زعماء المكونات الأخرى، فالسيد مسعود برزاني وُصف بـ”القجقجي”، وبافل طالباني بـ”المهرج”، في وقت لم يسلم فيه قادة السنة من حملات التخوين والتشويه، وعلى رأسهم الخنجر والحلبوسي، الذين اتُهموا بالعمالة لتركيا والإمارات ودعم الإرهاب. كل ذلك كان جزءاً من أدوات التحشيد الطائفي وكسب الأصوات، لا أكثر.
لكن أخطر ما في هذا النهج أنه يُهين السياسة نفسها، ويحوّل المنافسة الديمقراطية إلى معركة تصفية حسابات، حيث تُستخدم الألفاظ الجارحة بدل الحجة، ويُستبدل النقد بالسبّ والتخوين. وهكذا يفقد الخطاب السياسي قيمته الأخلاقية ويتحوّل إلى أداة لهدم الجسور بين أبناء الوطن الواحد.
بعد الانتخابات: المصلحة تذيب المبادئ
لكن ما إن تُغلق صناديق الاقتراع وتُعلن النتائج، حتى تتبدل اللغة وتنعكس المواقف رأساً على عقب. فها هم أولئك الذين اتهموا بالأمس قادة السنة بالكفر والخيانة، يسارعون اليوم إلى لقائهم وتقديم عبارات المجاملة والمديح، طمعاً في التحالف وتشكيل الحكومة. وتبدأ “رحلات الودّ السياسي” إلى أربيل للقاء السيد مسعود برزاني، في مشهد يعكس مدى هشاشة المبادئ وثبات المصلحة وحدها في عقلية كثير من السياسيين.
ولعلّ المفارقة أن هذه التحالفات التي تُبرم اليوم تُنقض غدًا، لأن أساسها ليس الثقة أو المشروع الوطني، بل المصلحة العابرة. وهكذا ينهار كل تحالف عند أول اختبار، لأن من يبيع مواقفه بسهولة لا يمكن أن يكون شريكًا في بناء دولة مستقرة.
أزمة الأخلاق السياسية في العراق
إن ما يجري ليس مجرد اختلاف في التكتيك، بل هو أزمة قيم ومفاهيم لدى الطبقة السياسية التي جعلت من الخطاب الطائفي وسيلة للوصول إلى السلطة، ثم تنقلب عليه فور تحقيق المكاسب. هذا التحول السريع في المواقف يكشف بوضوح أن ما يُقال قبل الانتخابات لا علاقة له بالوطن، وإنما هو حديث انتخابي عابر تُديره المصالح وتغذّيه الانتهازية السياسية.
لقد فقد المواطن ثقته بأي وعود تُطلق خلال الحملات الانتخابية، لأن التجربة أثبتت أن كل شعار يُرفع قبل الاقتراع يتحوّل إلى صفقة بعده، وكل تعهد يُعلن على المنابر ينتهي إلى ورقة تفاوض في الكواليس السياسية.
وعي الشعب وانكسار سحر الخطاب الطائفي
ولعلّ الشعب العراقي الذي خبر هذه الوجوه وخطاباتها، بات أكثر وعيًا من أن يُخدع بالشعارات، فقد أدرك أن من يزايد باسم المذهب قبل الانتخابات، هو ذاته من يبيع تلك الشعارات في بازار التحالفات بعدها.


