المدن العراقية التي بُنيت في الإسلام

المدن العراقية التي بُنيت في الإسلام
يستعرض النص تأسيس المدن العراقية الكبرى: البصرة والكوفة وواسط في صدر الإسلام، موضحًا أسباب اختيار مواقعها ودورها الإداري والعلمي، ويبرز أهميتها كمراكز حضارية وإدارية في تاريخ الدولة الإسلامية وتطورها العمراني والاجتماعي...
منذ أن بعث الله ﷻ النبيَّ ﷺ برسالته، وأمره بنشر دعوته وبناء دولته — دولة الإسلام التي لا تحدها حدود، ولا تجمعها قيود — اجتهد الخلفاء والقادة المسلمون في توسيع رقعة الدولة ونشر الدين، فانتشر الإسلام في الآفاق، وازدادت أعداد المسلمين خارج الجزيرة العربية نتيجة الفتوحات والغزوات المباركة.

ولمّا امتدت رقعة الإسلام، شرع المسلمون في تمصير المدن وبنائها بما يتناسب مع حاجتهم الإدارية والعسكرية، وكان العراق من أبرز الأقاليم التي مُصِّرت فيها المدن الإسلامية، حتى أصبح لاحقًا مقرًّا للخلافة الإسلامية لقرونٍ طويلة، بدءًا من عهد الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي اتخذ الكوفة عاصمةً له، مرورًا ببني العباس الذين أسسوا دولتهم في العراق، وجعلوا بغداد مقرَّ حكمهم حتى سقوطها سنة 656هـ.

ولأهمية العراق في التاريخ الإسلامي، سنقتصر في هذا المقال على المدن العراقية التي خُطت وبُنيت في الإسلام.

1. مدينة البصرة

هي أول مدينة مُصِّرت في الإسلام، وذلك في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 14هـ، على يد القائد عتبة بن غزوان المازني رضي الله عنه.

فتح البصرة

حين كانت معارك المسلمين دائرة ضد الفرس بقيادة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في المدائن وما حولها، أراد الخليفة عمر أن يفتح على الفرس جبهة جديدة، فقطع عنهم الإمدادات القادمة من الجنوب، فبعث عتبة بن غزوان إلى البصرة، ففتحها وقهر من فيها من الفرس، وغنم أموالهم، واستقرت له المدينة.

تمصير البصرة

كتب عتبة إلى الخليفة عمر أن المسلمين بحاجة إلى مدينة يسكنونها ويأوون إليها بعد الغزو، فأجابه الخليفة إلى طلبه، وأمره أن يختار موضعًا قريبًا من الماء والمراعي.

فاختار عتبة أرضًا كثيرة القصب، قريبة من الأنهار، فوافقه الخليفة وقال:

“هذه أرض نضِرة قريبة من المشارب والمراعي والمختطب، فأنزل الناس فيها.”

فنزل المسلمون وبنوا مساكنهم ومسجدهم من القصب، وجعل عتبة دار الإمارة بجوار المسجد. ثم توالت عمليات التعمير، فجدّد أبو موسى الأشعري البناء بالطين واللبن، ثم جاء زياد بن أبيه فبنى المسجد بالجص والصخر وسقفه بالساج.

قال الشاعر حارثة بن بدر الغداني مادحًا زيادًا:

بنى زيادٌ لذكرِ اللهِ مصنَعَهُ

بالصخرِ والجصِّ لم يُخلَطْ من الطينِ

لولا تعاونُ أيدي الرافعينَ لهُ

إذا ظننّاهُ أعمالَ الشياطينِ

وبقيت البصرة بعد ذلك مركزًا للعلم والعلماء، ومنارةً للفقه واللغة والحديث، ولا تزال إلى اليوم مدينةً حاضرةً، وثالث أكبر مدن العراق، وميناءه البحري الوحيد، وموطنًا للزراعة والنفط والعمران.

2. مدينة الكوفة

هي ثاني المدن الإسلامية التي خُطت، وكان ذلك أيضًا في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة 17هـ، على يد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، بعد أن أتمَّ فتح جلولاء وحلوان وتكريت والموصل ونينوى.

سبب اختيار الكوفة

بعد أن أقام المسلمون في المدائن، تغيّرت ألوانهم ووهنت أجسامهم بسبب مناخها الرطب وبيئتها الغريبة عن طبيعة العرب البدو، فكتب عمر إلى سعد يستفهم عن حالهم، فأجابه بأن العرب لا توافقهم تلك الأرض. فأمره عمر بالبحث عن مكان أصلح، فاختار سعد الكوفة لتكون مركزًا للقيادة والإدارة.

تمصير الكوفة

عسكر المسلمون في الكوفة سنة 17هـ، واستأذنوا عمر أن يبنوا بيوتهم من القصب، فأذن لهم، حتى شبَّ حريقٌ أتى على بيوتهم، فاستأذنوه بالبناء باللبن، فأجاز لهم بشرط ألّا يزيد أحدهم على ثلاثة أذرع في البناء، وأوصاهم قائلاً:

“الزموا السنة، تلزمكم الدولة.”

ثم خُط المسجد أولًا، وجُعل مركز المدينة، وبُنيت حوله دار الإمارة، وبيت المال، ثم سُكنت القبائل على أطرافها بانتظام.

ولا تزال الكوفة قائمةً إلى اليوم، وفيها مسجد الكوفة الذي بقي شاهدًا على تاريخها الإسلامي العريق.

3. مدينة واسط

ثالث مدينة عراقية مُصِّرت في الإسلام، وخامس المدن الإسلامية بعد فسطاط مصر والرملة. بناها الحجاج بن يوسف الثقفي في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان سنة 84هـ، واكتمل بناؤها سنة 86هـ.

وسُمّيت واسطًا لأنها تتوسط بين الكوفة والبصرة والمدائن.

قال ياقوت الحموي: “لما فرغ الحجاج من بنائها كتب إلى عبد الملك: إني اتخذت مدينةً في كرشٍ من الأرض بين الجبل والمصرين وسمّيتها واسطًا.”

ووصفها القزويني بأنها “كثيرة الخيرات، وافرة الغلات، تشقها دجلة، صحيحة الهواء، عذبة الماء.”

وتقع محافظة واسط اليوم في وسط العراق، ومركزها الكوت، وتبلغ مساحتها نحو 17,000 كم²، ويزيد سكانها على مليون نسمة، وتضم أقضيةً عديدة مثل النعمانية والعزيزية والصويرة وبدرة وغيرها.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *