المقدمة النظرية
يحتل موضوع السلام موقعًا محوريًا في الفكر الفلسفي والسياسي الحديث. ففي كتابه الشهير مشروع للسلام الدائم (1795)، قدّم إيمانويل كانت تصورًا يتجاوز منطق الحروب المتكررة بين الدول، داعيًا إلى إقامة نظام دولي يقوم على الجمهورية، والتعاون، واحترام الحقوق المتبادلة. أما جون راولز، فقد طوّر في كتابه قانون الشعوب (1999) مقاربة معيارية لكيفية تعايش المجتمعات المختلفة في إطار مبادئ العدالة والاحترام المتبادل.
ورغم أن هذه الرؤى وُلدت في سياق التجربة الأوروبية، إلا أن الشرق الأوسط اليوم في أمسّ الحاجة إلى مقاربة مشابهة، بل ربما أكثر جذرية، نظرًا لما يعانيه من صراعات دينية–مذهبية وقومية ممتدة منذ قرن على الأقل. إن استدعاء الفلسفة الكانطية والراولزية يفتح الباب أمام بناء إطار حضاري جديد يقوم على قيم المواطنة والعدالة والحرية، ويقدّم بديلًا للأنماط التاريخية من الصراع والهيمنة.
من هنا تبرز أهمية مشروعين متكاملين:
- المواطنة الشرق أوسطية: التي تسعى إلى بناء هوية سياسية–حقوقية عليا تتجاوز الحدود الوطنية والمذهبية، وتضمن المساواة في الحقوق والواجبات لجميع مواطني الإقليم.
- الدولة الواحدة في فلسطين الكبرى: التي تنهي النزاع العربي–الإسرائيلي على أساس ديمقراطي حضاري، قائم على المساواة التامة بين السكان من النهر إلى البحر.
إن الجمع بين هذين المشروعين يفتح أفقًا لسلام حقيقي في المنطقة، قائم على الاندماج السياسي–الاقتصادي لا على توازنات القوة المؤقتة. وفي هذا السياق، فإن معالجة الانقسام الشيعي–السني تمثّل خطوة جوهرية ضمن مشروع المواطنة الشرق أوسطية، إذ ينقل العلاقة بين المكونات المجتمعية من ساحة النزاع المذهبي إلى ساحة المواطنة والمصالح المشتركة.
الملخص التنفيذي
تبحث هذه الورقة في كيفية تحويل مشروع “المواطنة الشرق أوسطية” إلى إطار عملي لتحقيق اندماج شيعي–سني مستدام، قائم على أسس سياسية واقتصادية، بعيدًا عن الانقسامات المذهبية. تنطلق الورقة من فرضية أن تجاوز الانقسام الطائفي يتطلب تأسيس هوية مواطنة عليا تتجاوز حدود الدولة القُطرية، وتُعيد تعريف العلاقة بين المكونات المجتمعية في ضوء القيم الحضارية الحديثة: الحرية، العدالة، المساواة، التعاون، والتضامن.
أولًا: الخلفية والسياق
- تاريخ الانقسام الشيعي–السني
- الجذور الدينية تعود إلى القرن الأول الهجري، لكن أبعادها السياسية تفاقمت مع قيام الدول القُطرية الحديثة.
- في العراق، لبنان، سوريا، واليمن، شكّل البُعد الطائفي أداة لتوزيع السلطة والموارد، ما أدى إلى هشاشة دائمة.
- فشلت أنظمة المحاصصة المذهبية في بناء دولة عادلة أو مستقرة.
- الحاجة إلى مقاربة جديدة
- الانقسام الشيعي–السني لم يعد مجرد خلاف ديني، بل تحوّل إلى عامل معيق للتنمية والاستقرار.
- المطلوب: نقل العلاقة من ساحة صراع صفري إلى إطار مواطنة مشتركة ومصالح استراتيجية متبادلة.
ثانيًا: الإطار النظري – المواطنة الشرق أوسطية
- تعريف: هوية سياسية–حقوقية إقليمية تضاف إلى الهوية الوطنية، تمنح مواطني دول الإقليم حقوقًا متساوية في التنقل، والإقامة، والعمل، والاستثمار.
- مستلهمة من تجربة الاتحاد الأوروبي (المواطنة الأوروبية)، لكن مصمَّمة خصيصًا لخصوصيات الشرق الأوسط.
- ترتكز على القيم الحضارية للدولة الحديثة: الحرية، العدالة، المساواة، الإتقان، التعاون، التضامن، السلام.
- في هذا الإطار، يصبح الانتماء المذهبي غير ذي صلة في تحديد الحقوق والواجبات.
ثالثًا: الأهداف الاستراتيجية للاندماج الشيعي–السني
- إلغاء المحاصصة المذهبية في الحكم والإدارة.
- بناء سوق مشتركة شرق أوسطية تجعل التعاون الاقتصادي مصلحة مباشرة لجميع الأطراف.
- تعزيز الهوية المواطِنية العليا بدلًا من الانتماءات الطائفية الضيقة.
- إيجاد مؤسسات إقليمية جامعة تعالج النزاعات بالوسائل القانونية والسياسية.
رابعًا: السياسات المقترحة
- إصلاح سياسي
- تبني نظم انتخابية نسبية على أساس البرامج السياسية.
- صياغة دساتير وطنية تحظر التمييز المذهبي.
- إنشاء محكمة إقليمية لفض النزاعات ذات الطابع المذهبي–السياسي.
- تكامل اقتصادي
- إنشاء صندوق تكافؤ إقليمي يوجّه الاستثمارات إلى المناطق المهمشة بغض النظر عن هويتها.
- إقامة ممرات اقتصادية مشتركة (طاقة، نقل، تجارة) تمر عبر مناطق شيعية وسنية في آن واحد.
- اعتماد معايير شفافة لتوزيع العقود والمناقصات الحكومية.
- بُعد اجتماعي–ثقافي
- تطوير مناهج تعليمية تُعزز قيم المواطنة والتعايش.
- دعم إعلام إقليمي يبرز قصص التعاون بين الشيعة والسنة.
- تشجيع التبادل الجامعي والمهني عبر مناطق مختلطة.
خامسًا: الاندماج الشيعي–السني والدولة الواحدة في فلسطين
لا يمكن النظر إلى مشروع الاندماج الاستراتيجي الشيعي–السني بمعزل عن مشروع الدولة الواحدة في فلسطين الكبرى الممتدة من النهر إلى البحر. فهما مساران متكاملان في تحقيق السلام الإقليمي الشامل. يقوم الأول على تجاوز الانقسامات المذهبية داخل المجتمعات العربية والإسلامية عبر إطار المواطنة الشرق أوسطية، فيما ينهي الثاني النزاع العربي–الإسرائيلي على أساس ديمقراطي حضاري يقوم على المساواة التامة بين جميع السكان. إن نجاح أحد المشروعين يعزز الآخر، وكلاهما يسعى إلى تحويل الشرق الأوسط من ساحة صراعات تاريخية إلى فضاء تعايش ومواطنة متكافئة. وبذلك يشكّل المشروعان معًا حجر الزاوية في فلسفة السلام الدائم في الشرق الأوسط.
سادسًا: خارطة الطريق الزمنية
المرحلة الأولى (1–3 سنوات):
- إقرار قوانين المساواة وعدم التمييز.
- إطلاق برامج اقتصادية مشتركة صغيرة الحجم.
- تأسيس هيئة إقليمية لمتابعة المشروع.
المرحلة الثانية (4–7 سنوات):
- تفعيل صندوق التكافؤ الإقليمي.
- البدء بمشاريع بنية تحتية كبرى مشتركة.
- إدماج المناهج التعليمية المشتركة.
المرحلة الثالثة (8–15 سنة):
- بناء سوق عمل إقليمية موحدة.
- إنشاء برلمان إقليمي استشاري.
- إقرار المواطنة الشرق أوسطية كهوية قانونية فوق وطنية.
سابعًا: التحديات والمخاطر والحلول
| التحدي | الحل المقترح | 
| مقاومة النخب المستفيدة من الانقسام | ضمانات دستورية وآليات مراقبة مستقلة | 
| تدخلات خارجية | إطار دولي داعم وربط بالمؤسسات الأممية | 
| ضعف البنية المؤسسية | بناء قدرات وطنية وإصلاح تدريجي | 
ثامنًا: مؤشرات الأداء (KPIs)
| المؤشر | الهدف الكمي | 
| معدلات التمييز في التوظيف | انخفاض بنسبة 50% | 
| حجم الاستثمارات المشتركة | زيادة بنسبة 25% خلال خمس سنوات | 
| التبادل التجاري الإقليمي | ارتفاع بمعدل 30% | 
| المشاركة السياسية العابرة للهويات | زيادة ملحوظة في نسب التصويت غير الطائفي | 
تاسعًا: الخلاصة والتوصيات
- الاندماج الشيعي–السني في إطار المواطنة الشرق أوسطية ليس حلمًا مثاليًا، بل ضرورة حضارية لاستقرار المنطقة.
- الحل يكمن في نقل الصراع من مستوى الهويات المذهبية إلى مستوى المواطنة والمصالح المشتركة.
- مشروع الدولة الواحدة في فلسطين الكبرى يكمل هذا المسار، إذ ينهي النزاع العربي–الإسرائيلي على أساس ديمقراطي حضاري.
- وبذلك يشكّل المشروعان معًا حجر الزاوية في فلسفة السلام الدائم في الشرق الأوسط، ويؤسسان لمرحلة جديدة من التعايش والازدهار الإقليمي.
- التوصية الرئيسة: الشروع بخطوات اقتصادية–قانونية عملية تُرسي أسس الثقة المتبادلة، وتفتح الطريق أمام اندماج أوسع.
(٢)
الاندماج الاستراتيجي بدلًا من التشابه العقائدي
من العبث الحديث عن التشابه بين الشيعة والسنة في المجال العقائدي أو الفقهي، وكأن المطلوب أن يصبح كل طرف نسخة عن الآخر. فلكل مذهب تراثه الفكري والفقهي الخاص، الذي لا يمكن مساواته أو دمجه أو توحيده مع الآخر دون إلغاء جوهر هويته. مثل هذا المسعى لا يقود إلى نتيجة عملية، بل يكرّس الانقسام أكثر مما يخففه.
لكن إذا غيّرنا زاوية النظر، وانتقلنا من الدين إلى الاستراتيجية، فإننا نجد أرضية مشتركة واسعة وممكنة. فالشيعة والسنة، ومعهم بقية مكوّنات الشرق الأوسط، ليسوا مضطرين للتشابه في العقيدة بقدر ما هم محتاجون إلى التكامل في الأمن، الاقتصاد، السياسة، والبنية التحتية.
فالاندماج الاستراتيجي يعني:
- مساواة في الحقوق والواجبات، بعيدًا عن الانتماء المذهبي.
- تعاون في مواجهة التهديدات الأمنية والعسكرية المشتركة.
- بناء شبكات طاقة ونقل وأسواق اقتصادية مترابطة تخلق مصالح متبادلة.
- تحويل الصراع الطائفي إلى منافسة سياسية–اقتصادية مشروعة ضمن إطار المواطنة المتساوية.
بهذا المعنى، فإن مشروع المواطنة الشرق أوسطية لا يطلب من أحد أن يتنازل عن عقيدته أو فقهه، وإنما يطلب من الجميع أن يتقاسموا الأمن والازدهار على أساس الشراكة العادلة.
النتيجة: لا حاجة لبحثٍ عن “تشابه مذهبي” مستحيل، بل عن اندماج استراتيجي ممكن وضروري، وهو الطريق الواقعي نحو سلام دائم في الشرق الأوسط.
من الطائفية إلى المواطنة: كيف تتحول الهوية من عبء إلى طاقة؟
تُقدَّم الطائفية في الشرق الأوسط غالبًا كقدر لا مفر منه، وكأنها قانون أزلي يحكم حياة المجتمعات منذ قرون. لكن الحقيقة أن الطائفية ليست ظاهرة طبيعية أو ثابتة، بل هي نتاج صراعات سياسية واقتصادية استُخدمت فيها الانقسامات الدينية أداة للهيمنة والسيطرة. لذلك فهي ليست نهاية الطريق، بل يمكن إعادة توجيهها وتحويلها من عبء يقيّد المجتمعات إلى طاقة يمكن أن تغنيها.
الطائفية كعبء
حين تتحول الهوية المذهبية إلى معيار لتوزيع السلطة والثروة، تفقد الدولة قدرتها على بناء مؤسسات عادلة.
في لبنان والعراق مثلًا، أدت المحاصصة الطائفية إلى إنتاج أنظمة هشة، تفتقر إلى الكفاءة، وتفتح الباب أمام الفساد، وتُضعف ثقة المواطنين بوطنهم.
وبدل أن يكون الانتماء الطائفي خصوصية ثقافية، صار أداة سياسية لتهميش الهويات الوطنية المشتركة، مما حوّل المجتمع إلى فسيفساء متناحرة لا وحدة بينها.
إمكانات التحول
التجارب العالمية تثبت أن الطائفية ليست قدرًا أبديًا. أوروبا عاشت قرونًا من الحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت قبل أن تنجح في بناء هوية وطنية وقارية جامعة. رواندا تحولت بعد مجازرها الطاحنة إلى مجتمع يسعى إلى المصالحة والاندماج.
ما تحقق هناك يمكن أن يتحقق هنا، شرط بناء إطار جديد للهوية يقوم على:
- حقوق فردية متساوية تضمن العدالة لجميع المواطنين.
- مصالح اقتصادية مشتركة تجعل التعاون أكثر جدوى من النزاع.
- مؤسسات عادلة تردع التمييز وتكافئ الكفاءة.
المواطنة الشرق أوسطية كبديل
المواطنة الشرق أوسطية تقدّم هذا الإطار الجديد. فهي تمنح أي مواطن في الإقليم حق التنقل، والعمل، والإقامة، والاستثمار في جميع دوله، متساويًا في الحقوق والواجبات مع غيره.
بهذا تصبح قيمة الانتماء إلى الهوية الإقليمية أعلى من الانقسام المذهبي. فلا يطلب من الشيعي أن يتنازل عن مذهبه، ولا من السني أن يغير عقيدته، بل يُطلب منهما أن يكونا مواطنَين متساويين في وطن أكبر.
الهوية الطائفية لا تختفي، لكنها تفقد وظيفتها كأداة صراع سياسي، وتعود لتكون خصوصية ثقافية مشروعة.
الهوية كطاقة إيجابية
حين توضع الهويات المذهبية ضمن إطار مواطنة عادلة، تتحول إلى مصدر للتنوع الثقافي والإبداعي.
يمكن للتراث الشيعي والسني، مثل بقية الهويات الدينية والإثنية في المنطقة، أن يرفد الفنون والآداب والفكر والحياة المشتركة بقيم ومعارف وتجارب إنسانية غنية.
التاريخ القريب يشهد على ذلك: بغداد، دمشق، بيروت، والقاهرة كانت فضاءات تزدهر فيها التعددية قبل أن تستولي الطائفية السياسية على المشهد.
الطائفية ليست قدرًا أبديًا، بل خيار سياسي واقتصادي يمكن تجاوزه. ولا سبيل لتجاوزه بمحاولات “دمج” المعتقدات أو “تشابه” الفقه، بل ببناء مواطنة عليا جامعة.
إن مشروع المواطنة الشرق أوسطية هو الطريق إلى هذا التحول: من الطائفية كعبء يقسم المجتمعات إلى الهوية كطاقة تغنيها. وبهذا يصبح التنوع رافعة حضارية، لا لعنة تاريخية.
(٣)
الاقتصاد جسر الاندماج: لماذا يجب أن يبدأ الحل من السوق لا من السياسة؟
تتكرر الدعوات في الشرق الأوسط إلى الحوار السياسي بين القوى المذهبية أو القومية، لكن معظم هذه الحوارات تنتهي إلى طريق مسدود. السبب بسيط: السياسة وحدها لا تستطيع أن تُنتج الثقة بين خصوم يتنازعون على السلطة. إن المدخل الأكثر واقعية لبناء الثقة هو الاقتصاد، لأنه يخلق مصالح مشتركة ملموسة، تجعل التعاون أكثر فائدة من الصراع.
فشل السياسة في بناء الاندماج
منذ عقود، جُرِّبت أنظمة تقاسم السلطة الطائفية في أكثر من بلد، مثل لبنان والعراق. لكنها لم تحقق استقرارًا ولا عدالة، بل رسخت المحاصصة، وأبقت الانقسام حيًّا.
والحوار السياسي، مهما كان صادقًا، يظل رهينة الشكوك المتبادلة والمخاوف التاريخية. لذلك فإن البدء من السياسة وحدها يُشبه محاولة بناء منزل على أرض رخوة.
الاقتصاد يصنع الاعتماد المتبادل
في المقابل، التجارب العالمية تؤكد أن الاقتصاد هو المدخل الأنجع للاندماج.
- أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية: لم تبدأ بتأسيس “اتحاد سياسي”، بل بـ”المجموعة الأوروبية للفحم والصلب” عام 1951، لتقاسم أهم موردين استراتيجيين آنذاك. ومن هنا انطلقت فكرة الاتحاد الأوروبي.
- شرق آسيا اليوم: رغم النزاعات التاريخية، فإن الترابط التجاري بين الصين واليابان وكوريا الجنوبية يقلل من احتمالات انفجار نزاعات عسكرية.
عندما يرتبط الشيعة والسنة، وسائر مكوّنات المنطقة، بمشاريع اقتصادية كبرى — مثل شبكات طاقة مشتركة، أو ممرات تجارية، أو صناديق استثمار — يصبح استمرار الصراع مكلفًا للجميع، بينما التعاون يعود بالفائدة المباشرة.
مشروع المواطنة الشرق أوسطية كإطار اقتصادي
المواطنة الشرق أوسطية تقدّم آلية عملية لتجسيد هذا الاعتماد المتبادل:
- حرية تنقل العمالة بين دول الإقليم.
- أسواق مفتوحة أمام الاستثمارات العابرة للحدود.
- صندوق تكافؤ إقليمي يموّل المناطق المهمشة، بصرف النظر عن انتمائها المذهبي أو القومي.
بهذا، يتحول الاقتصاد من مجرد أداة نمو إلى أداة اندماج، تجعل كل طرف بحاجة للآخر، لا خصمًا له.
السياسة تأتي لاحقًا
النجاح الاقتصادي يخلق بيئة جديدة للسياسة:
- عندما يشعر المواطن أن رفاهيته مرتبطة بشراكات اقتصادية مع “الآخر”، يتغير موقفه من الخصومة.
- وعندما تدرك النخب أن قوتها مرتبطة باستقرار السوق، تميل إلى التسويات بدل الصراعات.
أي أن الاقتصاد يمهّد الطريق لبناء سياسة مختلفة، تقوم على المصالح المشتركة بدل المحاصصة الضيقة.
الحوار السياسي مهم، لكنه وحده غير كافٍ. الاندماج الحقيقي يبدأ من السوق، من المشاريع التي توحد المصالح وتُذيب الحواجز.
إن الاقتصاد هو الجسر الذي يعبر عليه الشرق الأوسط من الانقسام إلى المواطنة. ومن دونه ستبقى السياسة تدور في حلقة مفرغة.
(٤)
الأمن المشترك: كيف يحمي التكامل الشيعة والسنة معًا من التهديدات الخارجية؟
يعيش الشرق الأوسط في قلب شبكة من الصراعات والحروب والتدخلات الأجنبية. وغالبًا ما تتحول الانقسامات المذهبية، بين الشيعة والسنة خصوصًا، إلى بوابة تتسلل منها القوى الإقليمية والدولية لتأجيج النزاع والسيطرة على مقدرات المنطقة. لكن الحقيقة الواضحة هي أن لا الشيعة ولا السنة يستطيعون بمفردهم حماية أنفسهم من هذه التهديدات. السبيل الوحيد هو الأمن المشترك القائم على التكامل، لا على الاحتراب.
الأمن المذهبي وهمٌ قاتل
محاولات كل طرف لبناء “جبهة مذهبية” منفصلة أثبتت فشلها.
- الشيعة حين ينغلقون على هويتهم المذهبية فقط يجدون أنفسهم في مواجهة إقليمية ودولية واسعة.
- السنة حين يراهنون على “وحدة مذهبية” يكتشفون أن مصالح القوى الكبرى تفكك صفوفهم وتستغلهم.
 النتيجة: كلا الطرفين يصبح أداة في صراعات الآخرين بدل أن يكون فاعلًا مستقلًا.
التهديدات مشتركة مهما اختلفت المذاهب
- الإرهاب العابر للحدود لا يفرّق بين شيعي وسني حين يضرب الأسواق والمدارس والمستشفيات.
- الأطماع الخارجية في النفط والغاز والممرات البحرية تمس الجميع.
- سباقات التسلح تستنزف ثروات شعوب المنطقة من دون أن تمنحها أمنًا حقيقيًا.
كل هذه التهديدات لا تُواجَه إلا بتعاون أوسع من الانقسامات المذهبية.
التكامل الأمني كخيار استراتيجي
الأمن المشترك يعني:
- تنسيق استخباراتي إقليمي لمواجهة الإرهاب والجريمة المنظمة.
- قوات حفظ سلام مشتركة تُنشر في بؤر التوتر بإدارة إقليمية لا طائفية.
- اتفاقيات دفاع مشترك تردع أي اعتداء خارجي على أي دولة من دول الإقليم.
- مراقبة جماعية للحدود للحد من التهريب وتسلل الجماعات المسلحة.
هذا التكامل لا يلغي خصوصية كل دولة أو مكوّن، لكنه يضمن أن يكون الاعتداء على جزء من الإقليم اعتداءً على الكل.
المواطنة الشرق أوسطية كضمانة أمنية
حين يصبح المواطن الشيعي أو السني جزءًا من هوية أوسع — المواطنة الشرق أوسطية — فإنه يكتسب شعورًا بأن أمنه مرهون بأمن شركائه في بقية دول الإقليم.
وبذلك، تتحول المصلحة الأمنية من شأن طائفي ضيق إلى شأن جماعي، يحمي الجميع على أساس متساوٍ.
الأمن المذهبي وهم قاتل، أما الأمن المشترك فخيار استراتيجي واقعي. لا الشيعة ولا السنة قادرون بمفردهم على مواجهة التهديدات الخارجية والداخلية. وحده التكامل الأمني في إطار المواطنة الشرق أوسطية قادر على حماية الجميع.
وبذلك، يتحول الصراع من نقطة ضعف تستغلها القوى الخارجية إلى مصدر قوة يحمي المنطقة من التدخلات.
(٥)
جيل ما بعد الطائفية: التعليم والثقافة كمفاتيح لمستقبل جديد
الطائفية ليست مجرد خلاف فقهي أو عقائدي، بل ثقافة تُزرع في العقول منذ الطفولة وتُغذّى عبر الإعلام والسياسة. لذلك، فإن الطريق نحو شرق أوسط جديد لا يمر فقط عبر الاتفاقيات السياسية أو الخطط الاقتصادية، بل يتطلب صناعة جيل ما بعد الطائفية، وهو جيل يتربى على قيم المواطنة، ويجد في التنوع مصدرًا للإثراء لا سببًا للصراع.
المدرسة: نقطة البداية
التعليم هو الجبهة الأولى في معركة تجاوز الطائفية.
- المناهج الحالية في كثير من بلدان المنطقة إما تتجاهل التعددية أو تُقدّمها كخطر.
- المطلوب هو مناهج جديدة تعلّم التاريخ بوصفه خبرة مشتركة، وتُبرز القيم الحضارية: الحرية، العدالة، المساواة، التسامح.
- مادة “التربية على المواطنة” يجب أن تصبح أساسًا، تدرّس الطفل كيف يعيش مع المختلف لا كيف يعاديه.
الإعلام: إعادة تشكيل الوعي العام
لا يقل الإعلام خطورة عن المدرسة.
- قنوات فضائية كثيرة بنت شعبيتها على التحريض الطائفي.
- في المقابل، يمكن لإعلام الخدمة العامة أن يقدّم روايات بديلة، تبرز قصص التعايش والتعاون بين الطوائف.
- المسلسلات، الأفلام، والمحتوى الرقمي أدوات فعالة لغرس صورة إيجابية عن التنوع.
الجامعات والثقافة المشتركة
- الجامعات يمكن أن تكون مختبرات للتعايش من خلال برامج تبادل طلابي بين مدن ومناطق مختلفة.
- الفنون والآداب والموسيقى فضاءات طبيعية للتلاقي، حيث يذوب الانقسام أمام الجمال والإبداع.
- المهرجانات والأنشطة الثقافية العابرة للهويات تسهم في بناء وعي جديد يرى التنوع ثروةً لا تهديدًا.
المواطنة الشرق أوسطية كإطار جامع
حين يكبر الجيل الجديد في ظل مشروع المواطنة الشرق أوسطية، فإنه يتعامل مع الهوية المذهبية كجزء من شخصيته، لا كسقف يحدد مصيره.
المواطنة هنا تمنحه حقوقًا متساوية، وتفتح أمامه فرصًا في أي مكان من الإقليم، فيشعر أن مستقبله يرتبط بالمنطقة كلها، لا بطائفته فقط.
جيل ما بعد الطائفية لا يولد من تلقاء نفسه، بل يُصنع عبر التعليم، الإعلام، والثقافة.
إذا أردنا شرق أوسطًا آمنًا ومزدهرًا، فعلينا أن نزرع في أطفالنا منذ اليوم أن التنوع مصدر قوة، وأن المواطنة هي الأساس.
هكذا فقط يمكن أن نضمن أن الطائفية تتحول إلى صفحة من الماضي، وأن المستقبل يُكتب بلغة المواطنة والتعايش.
(٦)
فلسطين الكبرى والاندماج المشرقي: مساران لمشروع سلام واحد
لا يمكن الحديث عن سلام واستقرار في الشرق الأوسط من دون معالجة الجرح الأكبر في تاريخه الحديث: القضية الفلسطينية. فهذا النزاع لم يبقَ محصورًا في حدود فلسطين وحدها، بل تغلغل في كل تفاصيل المنطقة، وكان له دور مباشر أو غير مباشر في إذكاء الانقسامات الطائفية والقومية، وصناعة الاستقطابات الحادة التي شلّت طاقات المجتمعات. من هنا يصبح مشروع الدولة الواحدة في فلسطين الكبرى ومشروع المواطنة الشرق أوسطية مسارين متكاملين في رؤية واحدة للسلام.
الدولة الواحدة: إنهاء النزاع على أساس حضاري
مشروع الدولة الواحدة في فلسطين الكبرى (من النهر إلى البحر) يقوم على مبدأ بسيط وعميق:
- دولة ديمقراطية علمانية يتساوى فيها جميع السكان عربًا ويهودًا في الحقوق والواجبات.
- دستور مدني يضمن الحريات الأساسية، ويمنع التمييز الديني أو العرقي.
- مؤسسات سياسية واقتصادية مشتركة تحول أرض الصراع إلى ساحة مواطنة متساوية.
بهذا، ينتهي منطق الاحتلال والاقتلاع، ويُفتح الباب أمام صياغة هوية سياسية جامعة لجميع السكان.
الاندماج المشرقي: تجاوز الانقسامات الداخلية
لكن إنهاء النزاع الفلسطيني–الإسرائيلي وحده لا يكفي. فالمشرق العربي ما يزال مثقلاً بالانقسامات المذهبية، وخاصة الانقسام الشيعي–السني.
هنا يأتي دور مشروع المواطنة الشرق أوسطية الذي يسعى إلى بناء هوية إقليمية عليا، تمنح الأفراد حقوقًا متساوية في العمل، والإقامة، والتنقل، والاستثمار في جميع دول الإقليم.
هذا الإطار يجعل الانتماءات الطائفية والثقافية عناصر إثراء لا أدوات صراع، ويعيد تعريف العلاقات بين المجتمعات على أساس المصالح المشتركة.
تكامل المسارين
- الدولة الواحدة في فلسطين تنهي النزاع العربي–الإسرائيلي على أساس حضاري.
- المواطنة الشرق أوسطية تعالج الانقسامات الداخلية في المجتمعات العربية والإسلامية.
- المساران معًا يفتحان الطريق أمام اندماج مشرقي واسع، يحول المنطقة من ساحة صراعات تاريخية إلى فضاء تعاون وازدهار.
لا يمكن بناء سلام دائم في الشرق الأوسط بالالتفاف على القضية الفلسطينية أو بتجاهل الانقسامات الطائفية.
السلام الحقيقي يحتاج إلى حل مزدوج: دولة واحدة ديمقراطية في فلسطين الكبرى، ومواطنة شرق أوسطية تدمج جميع المكونات.
بهذا فقط يمكن أن يتحول الشرق الأوسط من مركز للتوتر العالمي إلى نموذج حضاري جديد للتعايش والاندماج.
(٧)
التكامل المؤسسي: نحو برلمان شرق أوسطي يضم الجميع
لا يكفي أن نتحدث عن اندماج اقتصادي أو أمني أو اجتماعي في الشرق الأوسط من دون وجود مؤسسات قادرة على تجسيد هذا الاندماج على أرض الواقع. فالمؤسسات هي التي تمنح الاستمرارية، وتحوّل الأفكار إلى سياسات، والاتفاقات إلى قوانين. من هنا تبرز الحاجة إلى تكامل مؤسسي، يكون أبرز تعبيراته قيام برلمان شرق أوسطي يمثل جميع شعوب المنطقة، ويمنحهم صوتًا مشتركًا في صياغة المستقبل.
لماذا المؤسسات؟
- الاندماج بلا مؤسسات هشّ: التجارب السابقة أثبتت أن التعاون الإقليمي إذا بقي على مستوى النوايا أو التحالفات المؤقتة فإنه ينهار عند أول أزمة.
- المؤسسات تصنع الثقة: حين يرى المواطن أن هناك برلمانًا أو محكمة مشتركة، يطمئن إلى أن حقوقه محمية عبر آلية قانونية تتجاوز حدود بلده أو مذهبه.
- المؤسسات تصنع الاستمرارية: الأفراد والزعماء يرحلون، لكن المؤسسات تبقى وتطوّر نفسها.
البرلمان الشرق أوسطي
فكرة البرلمان الشرق أوسطي تقوم على:
- تمثيل نسبي لجميع الدول والمكونات المذهبية والعرقية.
- وظيفة استشارية وتشريعية تدريجية: يبدأ البرلمان بدور استشاري، ثم يتحول مع الوقت إلى مؤسسة قادرة على إصدار قرارات ملزمة في مجالات معينة (التجارة، البيئة، حقوق الإنسان).
- قاعدة قانونية مشتركة تستند إلى ميثاق المواطنة الشرق أوسطية، الذي يضمن المساواة والحرية لجميع الأفراد.
مؤسسات مكمِّلة
إلى جانب البرلمان، يحتاج المشروع إلى:
- محكمة إقليمية لفض النزاعات السياسية والطائفية والاقتصادية.
- مجلس اقتصادي–اجتماعي ينسّق السياسات بين الدول.
- هيئة دفاع مشترك للتخطيط الأمني والعسكري.
هذه المؤسسات مجتمعة تجعل التكامل حقيقة عملية، لا مجرد شعارات.
دروس من التجارب العالمية
- الاتحاد الأوروبي بدأ بمؤسسات صغيرة (المجموعة الأوروبية للفحم والصلب)، ثم تطور إلى برلمان ومفوضية ومحكمة.
- الاتحاد الإفريقي أسس برلمانًا قاريًا رغم تنوع دوله الشديد، ليمنح القارة صوتًا موحدًا.
 هذه النماذج تؤكد أن التكامل المؤسسي ممكن حتى في بيئات معقدة.
إن مشروع المواطنة الشرق أوسطية لن ينجح إذا بقي مجرد فكرة مثالية، بل يحتاج إلى مؤسسات قوية تجسده.
وإن قيام برلمان شرق أوسطي سيكون خطوة رمزية وعملية في آن واحد: رمزية لأنه يعلن ولادة هوية عليا مشتركة، وعملية لأنه يمنح شعوب المنطقة آلية لصناعة مستقبلهم بأيديهم.
بهذا فقط يتحول الاندماج من حلم إلى واقع، ومن خطاب إلى نظام دائم.
(٨)
عناصر القوة الاقتصادية في مشروع المواطنة الشرق أوسطية
إذا كان الاندماج السياسي يحتاج إلى إرادة، والاندماج الأمني يحتاج إلى توافق، فإن الاندماج الاقتصادي هو الأكثر قدرة على أن يصبح العمود الفقري لمشروع المواطنة الشرق أوسطية. فالمصالح الاقتصادية المشتركة تُجبر الخصوم على التعاون، وتخلق شبكة اعتمادية متبادلة تجعل أي صراع مكلفًا للجميع. هنا نعرض أبرز عناصر القوة الاقتصادية التي يمكن أن تجعل المشروع ممكنًا وواقعيًا.
- الطاقة: النفط والغاز كرافعة تكامل
- يملك الشرق الأوسط أكثر من نصف احتياطي النفط العالمي، وحصة ضخمة من الغاز الطبيعي.
- بدل أن تكون هذه الثروة سببًا للتنافس والحروب، يمكن أن تصبح أساسًا لشبكات طاقة مشتركة، تربط دول الإقليم في منظومة واحدة للإنتاج والتوزيع والتصدير.
- مشاريع خطوط أنابيب عابرة للحدود ستجعل استقرار كل دولة ضرورة لبقية الشركاء.
- الموقع الجغرافي: عقدة طرق التجارة العالمية
- يربط الشرق الأوسط بين آسيا، أوروبا، وأفريقيا.
- ممراته البحرية (قناة السويس، مضيق هرمز، باب المندب، البوسفور) هي شرايين التجارة العالمية.
- استثمار هذا الموقع عبر ممرات برية–بحرية مشتركة سيحوّل المنطقة إلى مركز لوجستي عالمي، بدل أن تبقى بؤرة صراع جيوسياسي.
- 
السوق الاستهلاكية: قوة بشرية هائلة
- يضم الإقليم أكثر من 400 مليون نسمة، معظمهم شباب.
- هذه القوة السكانية ليست عبئًا إذا جرى دمج الأسواق الوطنية في سوق إقليمية واحدة.
- تكامل السوق يعني فرصًا أكبر للاستثمار، ومجالًا أوسع للشركات الناشئة والصناعات المشتركة.
- التنوع الاقتصادي: إمكانات تكاملية
- دول غنية بالطاقة (الخليج وإيران).
- دول زراعية كبرى (مصر، العراق، السودان).
- دول صناعية صاعدة (تركيا، إيران جزئيًا).
- دول ذات خبرات خدمية ومالية (لبنان، الإمارات، قطر).
 هذا التنوع، إذا جُمِع ضمن مشروع واحد، سيخلق توازنًا اقتصاديًا نادرًا في العالم.
- رأس المال السيادي والاستثمارات
- تمتلك بعض دول المنطقة صناديق سيادية هائلة بمئات المليارات من الدولارات.
- يمكن أن تُستثمر هذه الأموال في صندوق تكافؤ إقليمي يموّل مشاريع تنمية مشتركة، ويعيد توزيع العوائد بشكل يقلل الفوارق بين الدول والمجتمعات.
- 
التكامل في البنية التحتية
- مشاريع سكك حديدية وموانئ مشتركة.
- شبكات كهرباء ومياه عابرة للحدود.
- استثمارات في التكنولوجيا والاتصالات.
 هذه المشاريع لن تكتمل إلا بتعاون إقليمي، ما يجعلها بذاتها آليات للاندماج.
الخاتمة
إن عناصر القوة الاقتصادية في الشرق الأوسط ليست مجرد أرقام أو موارد، بل هي فرص استراتيجية لبناء اندماج حقيقي.
مشروع المواطنة الشرق أوسطية يقدّم الإطار القانوني والسياسي لهذا الاندماج، ويحوّل الطاقة، الموقع، السوق، والتنوع إلى أدوات للتكامل بدل أن تبقى مصادر صراع.
بهذا يصبح الاقتصاد ليس فقط محرك النمو، بل الأساس العملي لبناء السلام الدائم في المنطقة
(٩)
منطق المصلحة المشتركة: لماذا لا يستطيع أحد أن يربح من استمرار الانقسام؟
يعيش الشرق الأوسط منذ عقود في دائرة مفرغة من الانقسامات الطائفية والسياسية والعرقية. ورغم ما يظنه البعض من أن هذا الانقسام يمنح قوةً لطرف ما أو يحقق مكاسب لفئة معينة، فإن الحقيقة أن لا أحد يربح من استمرار الانقسام على المدى الطويل. فالخسائر تعمّ الجميع، بينما المستفيد الوحيد هو القوى الخارجية والنخب الضيقة التي تتغذى على الفوضى.
الخسائر العامة للانقسام
- اقتصاديًا: استمرار الانقسام يبدد الثروات في صراعات عبثية بدل استثمارها في التنمية والبنية التحتية.
- اجتماعيًا: الانقسام يولد موجات نزوح وهجرة ويزيد من تفكك الأسر والمجتمعات.
- سياسيًا: يضعف الدولة الوطنية، ويجعلها رهينة المحاصصة والفساد.
- أمنيًا: يفتح الأبواب أمام الإرهاب والجريمة المنظمة والتدخلات الخارجية.
المستفيدون الحقيقيون
- القوى الخارجية التي تجد في الانقسام فرصة للسيطرة على القرار السياسي والاقتصادي.
- النخب الفاسدة التي تبرر بقاءها في السلطة بذريعة حماية الطائفة أو الجماعة.
 لكن هذه المكاسب قصيرة المدى، لأنها تضعف حتى المستفيدين حين يفقد المجتمع استقراره وقدرته على الاستمرار.
منطق المصلحة المشتركة
الحقيقة الجوهرية أن جميع الأطراف، مهما اختلفت، تتقاطع مصالحها في نقاط أساسية:
- الحاجة إلى أمن مستقر يحمي الجميع.
- الحاجة إلى اقتصاد مزدهر يخلق فرص عمل ويحارب الفقر.
- الحاجة إلى دولة عادلة تضمن الحقوق وتمنع الفوضى.
لا يمكن لأي طائفة أو دولة أو جماعة أن تحقق هذه الأهداف بمفردها. وحده التكامل قادر على تحقيقها.
المواطنة الشرق أوسطية كحل عملي
من خلال مشروع المواطنة الشرق أوسطية، تصبح المصلحة المشتركة إطارًا قانونيًا ومؤسسيًا:
- حقوق متساوية لجميع الأفراد.
- سوق مشتركة ومشاريع تنموية عابرة للحدود.
- مؤسسات سياسية وأمنية تكفل الاستقرار للجميع.
وبذلك يتحول منطق المصلحة المشتركة من شعار نظري إلى حقيقة ملموسة يشعر بها المواطن في حياته اليومية.
الانقسام ليس ربحًا لأحد، بل خسارة للجميع. والمصلحة المشتركة ليست خيارًا مثاليًا، بل هي الطريق الوحيد للبقاء والازدهار.
إن مشروع المواطنة الشرق أوسطية يقدّم هذا الطريق بوضوح: إطارًا حضاريًا يحول الصراع من لعبة خاسرة للجميع إلى شراكة رابحة للجميع.
(١٠)
دعوة إلى تبنّي مشروع المواطنة الشرق أوسطية:
نحو قيادة مشتركة للسلام والاندماج
بعد عقود من الصراعات الدامية والانقسامات الطائفية والقومية التي أنهكت شعوب المنطقة، آن الأوان للانتقال من منطق الصراع إلى منطق الشراكة. وقد بات واضحًا أن الحلول الجزئية لم تعد تكفي، وأن المطلوب هو مشروع حضاري شامل يعيد صياغة العلاقة بين شعوب الشرق الأوسط على أساس المساواة والعدالة والمصالح المشتركة. هذا ما يمثله مشروع المواطنة الشرق أوسطية، الذي يفتح الباب أمام اندماج سياسي–اقتصادي وأمني يضمن الاستقرار والازدهار للجميع.
القوى الكبرى ومسؤوليتها التاريخية
إن نجاح هذا المشروع يتطلب تبنّي القوى الإقليمية الرئيسية، لأنها الأكثر قدرة على التأثير، ولأن استقرارها الداخلي والإقليمي مرهون بقدر كبير بوقف دوامة النزاعات.
- إيران: تحتاج إلى إطار إقليمي يضمن مصالحها الأمنية بعيدًا عن عزلتها أو صداماتها المستمرة.
- تركيا: مصلحتها في سوق إقليمي مفتوح وشراكات اقتصادية وأمنية واسعة تتجاوز حدودها.
- السعودية: تدرك أن التنمية ورؤية 2030 لا يمكن أن تكتمل في محيط مضطرب.
- مصر: بوزنها التاريخي والجغرافي تمثل ركيزة أساسية لأي مشروع مشرقي.
هؤلاء الأربعة يشكلون أعمدة الاستقرار الإقليمي، وتبنيهم للمشروع يمنحه الشرعية والقدرة على التنفيذ.
قطر: دور قيادي في التنفيذ
إن نجاح أي مشروع بهذا الحجم يحتاج إلى دولة قادرة على لعب دور الوسيط والراعي المحايد.
- تمتلك قطر سجلًا مميزًا في الوساطة وحل النزاعات.
- تملك شبكة علاقات متوازنة مع مختلف الأطراف الإقليمية والدولية.
- إمكانياتها الاقتصادية والإعلامية تؤهلها لتقود الإجراءات العملية نحو تأسيس مؤسسات المواطنة الشرق أوسطية: من مؤتمرات حوارية، إلى إطلاق الصندوق الإقليمي للتكافؤ، وصولًا إلى بناء آليات أمنية واقتصادية مشتركة.
خريطة البداية
- عقد مؤتمر تأسيسي في الدوحة يضم ممثلين عن الدول الأربع الكبرى، إضافة إلى وفود من بقية دول المنطقة.
- الإعلان عن ميثاق المواطنة الشرق أوسطية بوصفه وثيقة ملزمة أخلاقيًا وسياسيًا.
- تشكيل لجنة مشتركة برئاسة قطر لوضع خطة تنفيذية عملية تبدأ بمشاريع اقتصادية وتنموية.
إن تبنّي مشروع المواطنة الشرق أوسطية لم يعد ترفًا فكريًا، بل ضرورة تاريخية لإنقاذ المنطقة من حلقة صراعات لا تنتهي.
دعوة اليوم موجّهة إلى إيران، تركيا، السعودية، ومصر لتتحمل مسؤوليتها التاريخية، وإلى قطر لتقود مسار التنفيذ العملي.
بهذا فقط يمكن للشرق الأوسط أن يخطو نحو مرحلة جديدة، يكون فيها السلام الدائم والازدهار المشترك حقيقة لا شعارًا.
 
															 
								 
															


 
								 
								 
								 
								 
								 
								 
								 
								 
								