| إن قضية المياه المشتركة مع الجوار أوسع من كونها قضية قانونية بالمعنى الضيق للمصطلح، بل هي قضية سيادية وجوهرية للعراق في الميادين كافة. وبسبب ظروف وطنية قاسية لم تكن الخارجية العراقية قادرة على معالجة موضوعة المياه بكفاءة تحفظ للعراق حقوقه السيادية، متمثلةً بالتوصل إلى اتفاقات منصفة وملزمة مع دول الجوار.
إن هذا القصور لا يتعلق بأداء وزارة الخارجية فقط، بل بالأداء الحكومي العام (للإنصاف قبل وبعد عام 2003)، وكذلك بمواقف دولتي الجوار تركيا وإيران إزاء الموارد المائية المشتركة باعتبارهما دولتي منابع، وإن عدم الاتفاق على قسمة منصفة للمياه يجعلهما في وضع مريح وفي حِلٍّ من أي التزام، مقارنة بالعراق كدولة مصبٍّ هشّة اقتصادياً وسياسياً ومائياً. العراق وتحديات الأمن المائيإن تعاطي الخارجية مع الموضوعة المائية بجانبها الفني بدلاً من بعدها السيادي والمصيري والاستراتيجي، ينطوي على ضعفٍ في الموقف. ولهذا فقد كان دور وزارة الموارد المائية في الاجتماعات الرسمية والمداولات والتفاوض حسّاساً باعتبارها تدير الملف فنياً. وهي الأخرى غير مؤهلة لمعالجة الموضوع من جانبه السيادي الأشمل، لأنها وزارة معنية بجوانب تشغيلية داخلية للنظام المائي، وغالباً ما تجد أنها منغمسة بضغوط المواسم الزراعية الصيفية والشتوية ومواسم الشحّة والفيضان، وليس بالأبعاد الاستراتيجية للموضوع، ولا بطبيعته الشائكة العابرة للحدود، وعلاقة ذلك بالاستدامة والاستقرار وخلافه. بهذا المنحى فإن العراق بلد نموذجي للتحديات المائية التي قد تواجهها بلدان عديدة على المستويات كافة، المحلية منها والوطنية والدولية، وعلى المستويات الهيدرولوجية والسياسية والقانونية. فالتحول من بلد الوفرة المائية الكبيرة التي كانت تتسبب بفيضانات مدمّرة عبر التاريخ، إلى مرحلة الشحّة المائية القاسية الممتدة والمتكررة، وخلال فترات قصيرة نسبياً، هي تجربة مؤلمة وجديرة بالتأمل والمعالجات العاجلة. فهي لم تكن عرضيّة ولا مفاجئة، وما كان ينبغي لها أن تحدث لأي دولة أو مجتمع. إنها حالة اختلطت فيها التدخلات البشرية والصراعات العسكرية بعوامل الطبيعة والمناخ، فأنتجت تدهوراً مريعاً في الوضع المائي والبيئي السائد منذ آلاف السنين، في ظروف سياسية معقّدة، بعض أسبابها محلية ومعظم أسبابها إقليمية ودولية. الاقتصاد المائي والتنمية المستدامةوهنا لا بد من التذكير بمصائر الأهوار العراقية بعد حملة التجفيف الجائرة التي نفذتها حكومة ما قبل 2003، ومن ثم الإجراءات العادلة والصحيحة التي قامت بها الحكومات العراقية المتعاقبة حتى عام 2020، إذ تبيّن إهمال ملف الأهوار من قبل المعنيين، وحدث خلل في تنفيذ واجبات حمايتها من الجفاف، وانشغلوا بمشاريع كبيرة أخرى ألغتها فيما بعد حكومة السيد محمد شياع السوداني لعدم جدواها، كما ورد في لقاءات تلفزيونية عديدة على لسان وزير الموارد المائية الحالي بسبب شبهات فساد في تلك المشاريع المليارية، ومنها مشروع سد مكحول، ومشروع استبدال قناة البدعة، على سبيل المثال لا الحصر. ما يهمّنا هنا ليس مصير المنطقة وساكنيها وسبل معيشتهم فحسب، بل أيضاً موضوعة إدراج الأهوار العراقية على لائحة التراث العالمي التي ترعاها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو)، منذ تموز 2016، وما رتّبه ذلك من التزامات على العراق نابعة من سعيه إلى إدراج مُمْتَلك الأهوار باعتباره إرثاً عالمياً. فالعراق بهذا المعنى مسؤول عن الارتقاء بوسائله في إدارة ممتلك الأهوار بكل أبعاده الطبيعية والثقافية والإنسانية والاقتصادية وغيرها. وقد تضمنت خطة الإدارة المرفقة مع الملف المقدَّم لليونسكو، والذي جرت في ضوئه الموافقة على إدراج الأهوار العراقية على لائحة التراث، التزاماتٍ واضحةً على العراق لحماية الممتلك بمفاصله الطبيعية وآثاره. وصار من المحتم على العراق القيام بإجراءات مراقبة مستمرة للممتلك، وتزويد اليونسكو بتقارير دورية عن كل ما يحدث في تلك المساحة الجغرافية من الجنوب العراقي، ومنها بالطبع استدامة المورد المائي للأهوار الذي يضمن بقاءها بالوضع الذي ضَمِنَ فيه العراق إدراجها على لائحة التراث العالمي. لقد سُجِّلت الأهوار على لائحة التراث العالمي بسبب انطباق أربعة معايير عليها من أصل عشرة أوردتها اليونسكو، في الوقت الذي يكفي فيه انطباق معيار واحد على أي موقع لإدراجه على لائحة التراث العالمي باعتباره موقعاً ذا «قيمة عالمية استثنائية». إن كل ما جرى ويجري في الأهوار العراقية يجب أن يحظى باهتمام الخارجية العراقية لمراجعة التزامات العراق مع اليونسكو ومديات تنفيذها، وقيادة العمل الدبلوماسي بما يؤمن تنفيذاً مرضياً لتلك الالتزامات، ومن خلال ذلك الانخراط في مفاوضات أو حوارات مع دول الجوار بخصوص استدامة الحصص المائية التي تضمن بقاء الأهوار على لائحة التراث العالمي، باعتبار أن بلدان الجوار أعضاء في اليونسكو ولديها أيضاً مواقع مدرجة على لائحة التراث العالمي. إن موضوع المياه ملتبسٌ عراقياً في الوقت الراهن، ولكنه أيضاً فضاء لتحسين الأداء الدبلوماسي وتعزيز دور البلد في الشؤون ذات الطابع العالمي. فكثير مما نشهده من آثار سلبية تكمن في التعاطي المحلي والإقليمي مع الموارد الطبيعية والسياسات الاقتصادية التي تسهم في تشديد الآثار التي تُسوَّق إعلامياً باعتبارها من نتائج التغير المناخي. هنا يتعلق الأمر بالفعالية الدبلوماسية للعراق ومكانتها وتأثيرها وقدرتها على الصمود والحفاظ على حقوق العراق. وهذا عمل دبلوماسي بالدرجة الأولى، ولم يثبت أن الدبلوماسية العراقية تنتهجه لحماية حقوق العراق بصورة مرضية خلال العقود القليلة الماضية. |


