سباق الذهب… الحرب الباردة بصيغة مالية جديدة

سباق الذهب… الحرب الباردة بصيغة مالية جديدة
يشير الصراع المالي العالمي إلى نهاية هيمنة الدولار وبروز الذهب كرمزٍ للقوة الاقتصادية الجديدة. روسيا والصين تراهنان على نظام نقدي متعدد الأقطاب، فيما تواجه الولايات المتحدة إرهاقاً داخلياً يعجّل بتحولٍ عالمي نحو توازنٍ جديد في النفوذ...

في عالمٍ تتحرك فيه القوى الكبرى بصمتٍ ودهاء، يبدو أن صراع اليوم لم يعد يُقاس بعدد الدبابات أو الصواريخ فقط، بل بكمية الذهب المكنوزة في الخزائن. فكل الأحداث الأخيرة — من إلغاء قمة المجر بين ترامب وبوتين، مروراً بدعم أوكرانيا، وصولاً إلى المناورات النووية الروسية — ليست سوى مظاهر لصراعٍ أعمق بكثير، صراعٍ على شكل العالم القادم، وعلى من سيكتب القواعد الجديدة للنظام المالي والسياسي الدولي.

الذهب… لغة القوة الجديدة

شراء روسيا لكميات ضخمة من الذهب لم يكن خطوة مالية عابرة، بل إعلاناً استراتيجياً عن توجهٍ عالمي لكسر احتكار الدولار. فموسكو، ومعها بكين، تدرك أن السلاح الأخطر بيد واشنطن ليس جيشها، بل هيمنة عملتها على النظام المالي العالمي. لذلك، اتجه البلدان إلى تكديس الذهب كبديل مادي يحفظ السيادة ويُضعف قدرة أمريكا على خنق الخصوم بالعقوبات.

الصين بدورها، استبدلت خلال السنوات العشر الأخيرة جزءاً كبيراً من سنداتها الأمريكية بأطنان من الذهب، في خطوة هادئة لكنها ذات دلالات ثقيلة. إنها رسالة مفادها: العصر الذهبي للدولار يقترب من نهايته.

الرد الأمريكي: تصعيد عسكري وتكتيك فوضوي

إلغاء ترامب لقمة المجر مع بوتين جاء بعد شعوره بأن موسكو تجاوزت الخطوط الاقتصادية الحمراء. فبدل التهدئة، اختار ترامب طريق التصعيد، معلناً دعم أوكرانيا بصواريخ “توماهوك” في رسالة مزدوجة: الأولى لموسكو، بأن واشنطن لا تزال تمسك بخيوط القوة، والثانية لأوروبا، بأن أمريكا هي القائد الحقيقي للتحالف الغربي مهما تباينت المصالح.

وبالتوازي، جمدت أوروبا أموال روسيا في البنوك الأوروبية، وقدمت دعماً غير مسبوق لأوكرانيا بقيمة 165 مليار دولار، لتتحول الحرب إلى نزيف اقتصادي وسياسي طويل الأمد يهدف إلى إنهاك روسيا وإبطاء صعودها المالي القائم على الذهب والطاقة.

المناورات النووية… لغة التوازن الأخيرة

روسيا من جانبها لم تترك الرسالة دون رد، فأجرت مناورات نووية عابرة للقارات، في إشارة واضحة إلى أن الصراع لن يبقى في حدود العقوبات والمصارف. إنها تذكير للعالم بأن موسكو لا تزال تملك مفاتيح الردع النهائي، وأن التلاعب بمكانتها الاقتصادية سيقود حتماً إلى اهتزاز استقرار الأمن الدولي.

أما الصين فاختارت المواجهة الهادئة — عبر الاقتصاد — إذ تواصل بناء احتياطياتها من الذهب والتوسع في التبادلات التجارية بالعملات المحلية، في خطوة تكسر الاحتكار المالي الغربي دون إطلاق رصاصة واحدة.

ترامب بين طموح الإمبراطورية وأزمة الداخل

في المقابل، يعيش ترامب مأزقاً داخلياً عميقاً. فهو يواجه اقتصاداً مترهلاً، وديوناً فلكية تجاوزت قدرة الخزانة الأمريكية على السداد، إلى جانب انقسامات سياسية حادة داخل المجتمع الأمريكي. لذلك عاد إلى أسلوبه المفضل: خلق أزمة خارجية لتغطية الضعف الداخلي.

تهديده باجتياح فنزويلا لم يكن سوى محاولة لاستعراض القوة في وجه محور روسيا–إيران، خصوصاً مع وجود قواعد روسية في فنزويلا، وعلاقات متنامية بين كراكاس وطهران. ترامب يدرك أن العالم لم يعد يستجيب لخطابه الشعبوي القديم، فاختار العودة إلى لغة التهديد والحصار.

هل أمريكا مستعدة للمواجهة؟

السؤال الذي يطرح نفسه: هل الولايات المتحدة قادرة فعلاً على خوض مواجهة متعددة الجبهات — ضد روسيا في أوروبا، وضد الصين في الاقتصاد، وضد محور المقاومة في الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية — وهي تواجه أزمة ديون داخلية خانقة وضرائب متصاعدة وسخطاً شعبياً متزايداً؟

الواقع يشير إلى أن واشنطن اليوم تعيش إرهاق الإمبراطورية. فالعقوبات فقدت سحرها، وحروب الوكالة لم تعد تحسم شيئاً، والدول التي كانت تُدار بالتبعية بدأت تبحث عن بدائل نقدية وسياسية تضمن بقاءها خارج القبضة الأمريكية.

النتيجة: عالم على أعتاب التحول

ما يجري أمامنا ليس مجرد صراع اقتصادي أو عسكري، بل هو إعادة توزيع للنفوذ العالمي. الذهب عاد ليكون مرآة الثقة والقوة، والدولار بدأ يفقد مكانته كعرش لا يُمس.

روسيا والصين تُراهنان على زمنٍ ما بعد الدولار، بينما أمريكا تحاول كبح هذا التحول بالقوة العسكرية والتصعيد السياسي.

لكن التاريخ يقول إن كل إمبراطورية حين تبدأ بطباعة المال بلا غطاء وتخوض الحروب بلا نتيجة، تكون قد بدأت العد التنازلي لنهايتها.

لقد دخل العالم مرحلة جديدة، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الاقتصاد، ولا هيمنة تدوم إن لم تستند إلى قاعدة حقيقية من الذهب والعمل والإنتاج.

وما بين ضجيج ترامب ومناورات بوتين وصمت الصين العميق، تتشكل ملامح نظام عالمي جديد — ربما لا يولد غداً، لكنه بالتأكيد بدأ يتنفس اليوم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *