ما بعد الهوية: تشريح الصراع في جسد العالم الإسلامي بين هنتغتون ودوغين

ما بعد الهوية: تشريح الصراع في جسد العالم الإسلامي بين هنتغتون ودوغين
تُقدّم الدراسة رؤية لما بعد الهوية في العالم الإسلامي؛ حيث تحوّلت الأيديولوجيات الدينية والقومية إلى أدوات للنفوذ. فالصراعات في سوريا واليمن وأفغانستان ليست مذهبية بل مصالحية، والهويّة أضحت غلافاً لمعارك النفط والسلطة والمال....

ليست الهوية سوى مرآةٍ تشظّتْ فيها انكسارات التاريخ، لكنها ليست السبب، بل الضحية والأداة معاً. منذ سقوط الخلافة العباسية، لم يكفَّ العالم الإسلامي عن البحث عن ذاته في متاهات الخطابات الكبرى، من القومية إلى الشيوعية، ومن الوهابية إلى الثورة الخمينية. لكن المفارقة أن كل هذه المشاريع، رغم شعاراتها الوحدوية، تحوَّلت إلى سكاكين تقسِّم الجسد نفسه. هنا، حيث ينهار الوهم، يبدأ “صراع ما بعد الهوية”: ذلك التنافس الخفي الذي يُلبس ثوب الدين أو القومية، لكن قلبه مصالحُ مادية صرفة، تُدار بعقليةٍ جيوسياسيةٍ باردة.

لقد حاول السوفيت تصدير نسخة من الشيوعية لتوحيد هذه الدول كأمم، فلم يفلحوا. كما حاول عبد الناصر تصدير نسخة قومية لتوحيدها، فلم يفلح هو الآخر. وكانت آخر محاولة من السعودية في إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي، تسمى اليوم “منظمة التعاون الإسلامي” في العام 1969، وفشلت كذلك. وعقب الفشل الأخير، تصدَّرت نسخة أممية إسلامية قادمة من إيران، تنافست مع نسخة أخرى جاءت من أفغانستان. ثم تصارعت النسخة الأفغانية مع البغدادية في سوريا والعراق. كما تقاطعت النسخة الإيرانية مع السيستانية في المنطقة!

الإطار النظري: هنتغتون ودوغين.. ثنائية الوهم

عندما أعلن صامويل هنتغتون في كتابه “صراع الحضارات” (1996) أن المستقبل سيكون ساحة لتصادم الكتل الثقافية، كان يُردد صدى استشراقيَّاً قديماً: نظرةٌ من علُ تختزل تعقيدات الشعوب في هوياتٍ صلبة. تصوَّر أن الإسلام “حضارة” واحدة تتصارع مع الغرب، متناسياً أن الخريطة الإسلامية نفسها مليئة بالصدوع: سنّة وشيعة، عرب وفرس، أكراد وترك. بل تناسى أن التحالفات السياسية لا تعترف بالحدود المذهبية؛ فإيران الشيعية تحالفها مع فنزويلا العلمانية، والسعودية السنية تتعاون مع الكيان.

أما الكسندر دوغين، فيلسوف الكرملين المثير للجدل، فقد قدَّم في كتابه “أسس الجيوبوليتيكا” (1999) رؤيةً معاكسةً لكنها مُختزلة: دعا إلى عالمٍ متعدِّد الأقطاب تقوده “الحضارات الكبرى”، واعتبر العالم الإسلامي كتلةً موحَّدة يمكن تحالفها مع روسيا الأوراسية ضد الغرب. لكن دوغين، كهنغتينون، وقع في فخ التمجيد الرومانسي للهوية، متناسياً أن الدول الإسلامية نفسها تتقاتل على النفوذ (السعودية وإيران)، وأن “الأمة” مجرد وهمٍ تَسْتغله النخب لتحقيق مكاسبَ آنية.

كلاهما –هنتغتون ودوغين– لم يُدركا أن الهويات لا تصنع التاريخ، بل تُصنَع خلال التاريخ: أداةً في يد القوة، لا غايةً لها.

صراعات.. دم … مصالح

1.سوريا: مسرحٌ تتبارى عليه أشباح الهويات

لم تكن الحرب السورية حرباً علوية ضد سنّة، ولا صراعاً بين محورين مذهبيين. لقد تحوَّلت البلاد إلى لوحةٍ يرسم عليها اللاعبون الكبار مآربهم.

فروسيا دخلت لإنقاذ نظام الأسد ليس حباً بالعلويين، بل لحماية قاعدة طرطوس، آخر موطئ قدم لها في المتوسط.

أما إيران فقد حوَّلت “المقاومة” شعاراً لتمديد نفوذها من طهران إلى بيروت، عبر شبكة معقدة من الميليشيات التي تتحكم بطرق نقل النفط والغاز.

وحتى “د11عش”، التي قدَّمها الإعلام كتجسيد لـ”صراع الحضارات”، كانت أداةً مفيدةً لإرباك الخصوم، فبعض التقارير تشير إلى أن هجماتها في أوروبا خدمت أجنداتٍ أمنيةً لتعزيز الرقابة الحكومية.

2.اليمن: حيث تُباع الهوية في سوق النهب

قُدِّمت الحرب اليمنية كصراع بين “الحوثيين الشيعيين” و”التحالف السني”، لكن الوقائع تكشف أن الأمر أشبه بشراكةٍ غير مقدسة بين جميع الأطراف لاستنزاف ثروات اليمن. تشير بعض تقارير الأمم المتحدة (2022) أن قادة التحالف السعودي والحوثيين يتقاسمون عائدات تهريب النفط عبر خليج عدن!

وأن الإمارات، رغم مشاركتها في التحالف “السني”، دعمت انفصال جنوب اليمن لتحويل عدن إلى ميناءٍ غير منافسٍ لدبي.

3.أفغانستان: طالبان بين مطرقة الغرب وسندان الصين

لم تكن عودة طالبان انتصاراً للإسلام على العلمانية، بل نتيجةً لصفقةٍ جيوسياسية. فلم يكن انسحاب الولايات المتحدة (2021) هروباً من “المجاهدين”، بل خطوةً لحرمان الصين من تحالفٍ محتمل مع طالبان، التي تجلس على مناجم الليثيوم الضرورية للصناعات التكنولوجية.

وباكستان، الحليف التقليدي لطالبان، لم تدعمها بدافع “الأخوة الإسلامية”، بل لضمان عمق استراتيجي ضد الهند.

هل يمكن اختزال الإنسان في هويته؟

الهوية ليست سجناً أبدياً، بل سرديةً تُكتَب وتُمسَح وفقاً للرياح السياسية. هذا ما تؤكده الوقائع:

في العراق، تحالفت القوى الشيعة أنفسها مع الأمريكيين (2003) لإنهاء حكم صدام، ثم اختلف بعضهم مع البعض الاخر بسبب السلطة!.

في ليبيا، لا عدوَّ دائماً ولا حليفاً أبدياً، فالقبائل التي قاتلت مع القذافي بالأمس، تتحالف اليوم مع حفتر أو سراج وفقاً لمن يدفع أكثر.

حتى الخطاب الديني نفسه لم يعد مقدساً: فـ”ولاية الفقيه” الإيرانية تهادن الصين العلمانية، و”الدولة الإسلامية” تتعامل سراً مع تجار أسلحة إسرائيليين

(ايران كونترا).

 الهوية كمَخدَّر جماعي

لم يعد الصراع في عالمنا الإسلامي يدور حول من نحن، بل من يملكنا. الهوية هنا أشبه بغلافٍ زخرفي يُغلَّف به الواقع المادي القاسي: النفط، الغاز، الموانئ، طرق التجارة. إنه “صراع ما بعد الهوية” بامتياز: معركةُ كل شيءٍ إلا الهوية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *