في محاولة تسويق نفسه للحصول على جائزة نوبل للسلام، يقوم دونالد ترامب بتدبير مشاهد ترويجية، “ضحك” عليه في أحداها بنيامين نتنياهو بتسليمه ملف ترشيحه لجائزة نوبل للسلام، وهو نفسه مطلوب للمحكمة الجنائية الدولية كمجرم حرب!
في مشهد آخر قبل ايام، استضاف ترامب مجموعة من الصحفيين العاملين في قناة “فوكس نيوز” المردوخية المقربة منه، ليتحدث لهم عن “منجزاته” في تحقيق السلام العالمي، كجزء من الحملة الترويجية لنفسه. لكن معلوماته الجغرافية خانته هذه المرة. ففي معرض حديثه السطحي عن دوره السلمي ذكر أنه حقق السلام بين أذربيجان وألبانيا، وهما بلدان لم يدخلا حرباً بالأساس!
كان يقصد أذربيجان وأرمينيا، لكنه لا فرق لديه بين أرمينيا أو ألبانيا أو أي دولة أو قارة أخرى. والرجل لا يهتم بعمق بأي قضية دولية إلا بقدر تعلقها بالتعرفة الجمركية أو التهديد بالعقوبات. حتى رغبته المعلنة باحتلال بنما، أو الحاق كندا أو غرينلاند، تغاضى عنها كما يبدو (ربما مؤقتاً)، ليستعيض عنها بالرغبة في احتلال قاعدة بغرام الجوية في أفغانستان التي انسحب منها الأمريكان أثناء حكم بايدن، وذلك بحكم قربها من المنشآت النووية الصينية!
والرجل لا يخضع موقفه الشخصي أو مواقف ادارته من حرب الإبادة في غزة لأي تدقيق سياسي أو أخلاقي. ولا يرى العزلة التي وجدت فيها الولايات المتحدة، أذ أنها البلد الوحيد الذي يقف بالضد من العالم في دعم الحرب الإسرائيلية ضد غزة، إذا ما استثنيت بعض الجزر الصغيرة في المحيط الهادي في تلك المواقف المشينة. ومن الواضح بأنه يخضع لسطوة بنيامين نتنياهو وفلاديمير بوتين أكثر مما يخضع للمؤسسات الديمقراطية الأمريكية!
الاستخدام الأمريكي المفرط لحق الفيتو
لا شك بأنه في إطلاق تصريحاته الارتجالية، والاستخدام الأمريكي المفرط لحق الفيتو لمنع وقف الحرب في غزة، ينسى ترامب أحياناً سعيه المضمر للحصول على جائزة نوبل للسلام، أسوةً بالرئيس السابق باراك أوباما، الذي يشعر تجاهه بعقدة نقص فاضحة. فكيف يتسق أمر السلام العالمي مع التصريحات باحتلال بلدان أخرى، أو باستمرار حرب إبادة بشرية كان واضحاً بأنها الحرب الوحيدة التي يمكنه ايقافها بسبب الاعتماد الكلي لإسرائيل على الدعم الأمريكي، على عكس الحرب الروسية- الأوكرانية مثلاً!
بحسب محللين ومختصين فان دونالد ترامب يعاني من بعض مظاهر الخرف والنسيان والاضطرابات النفسية. وأقترح هنا على سبيل السهولة للمتابعين مشاهدة هذا البودكاست الرصين المخصص لدراسة شخصية ترامب قبل تسلمه الرئاسة الحالية: (https://www.youtube.com/watch?v=da9tZHW-jwo).
من الطريف ذكره نقلاً عن رئيس حكومة سابق أثناء رئاسته للحكومة قوله، بعد عودته من زيارة الى الولايات المتحدة، بأن وزير الخارجية الأمريكي حينها تيلرسون، أوصاه بعدم التحدث كثيراً عن “الدولة الإسلامية في العراق والشام-داعش” لأن الرئيس لا يفرق بين العراق وإيران والشام!
كان تيلرسون وزيراً كارزمياً، وكان حضوره الى جانب ترامب يغطي ربما على الحضور الذي يتخيله الرئيس لنفسه، ولذلك تخلص منه في فترة لاحقة وطرده من منصبه بتغريدة على تويتر أثناء زيارته الى جنوب أفريقيا. وكما هو واضح في عهدته الحالية في البيت الأبيض، فإن الرئيس ترامب، أحاط نفسه بشباب من أتباعه من قليلي الخبرة غير القادرين على تقديم أي فهم أفضل لشؤون العالم منه، مثل وزير الخارجية ماركو روبيو ووزير الدفاع هيغسيث وغيرهما. وهو لا يتضايق من وجودهم خلف المشهد الذي يبرزه وحيداً في المشهد!
لا يخفي ترامب تطرفه اليميني ولا نزعته العنصرية. وهو في غالبية تصريحاته يلقي باللوم على “أعداء” يعتبرهم مرةً “يساريين راديكاليين” أو “شيوعيين” وغير ذلك من الصفات التي اختفت عن التناول اليومي منذ الحملة المكارثية في أواسط القرن الماضي وانتهاء الحرب الباردة.
من أكثر الأحداث التي سمحت للرئيس ترامب ولأتباعه بإعادة تدوير تلك المصطلحات واستخدامها بقسوة مفرطة، بغرض إشاعة الخوف والكراهية، هي حادثة مقتل تشارلي كيرك. وقد تزامنت اللغة المتطرفة ضد “المتآمرين” من اليسار الراديكالي و”الارهابيين” مع تكثيف البحث عن المهاجرين غير الشرعيين وترحيلهم وبناء مراكز اعتقال كبرى على الحدود، مما خلق حالة من الخوف المبرر لدى الملايين من المواطنين، بمن فيهم من اكتسبوا الجنسية الأمريكية، تحت طائلة تهم مختلفة منها التعبير عن مواقف مختلفة من حادثة مقتل تشارلي كيرك، أو مواقفه السياسية المثيرة للجدل. وقد وصل الأمر الى تخويل وزير الخارجية ماركو روبيو بسحب جوازات السفر الأمريكية من الأشخاص الذين يعتقد ان لديهم مواقف مختلفة.
ويجري حالياً استخدام حادث مقتل تشارلي كيرك كحجة للانتقام من الخصوم، وإشاعة الخوف وتقنين حرية التعبير للحصول على مكاسب سياسية وإلحاق هزيمة ماحقة بالمنافسين والخصوم.
لقد شهد التاريخ المعاصر استخدام أحداث شخصية الطابع لتحقيق مآرب أخرى. فقد بدأت الحملة النازية ضد اليهود، والتي انتهت بالمحرقة، بسبب اغتيال موظف دبلوماسي الماني في السفارة الألمانية في باريس على يد شاب متطرف يهودي. كما استغلت إسرائيل محاولة اغتيال موظف دبلوماسي إسرائيلي في لندن في ديسمبر 1982، من قبل مجموعة فلسطينية مسلحة بقيادة أبو نضال، كذريعة إلى اجتياح لبنان. أما شرارة الحرب العالمية الأولى فقد كانت مقتل ولي عهد النمسا-المجر في حزيران 1914. بل حتى الاحتلال الفرنسي للجزائر قد بدأ أثر مشاجرة بين حاكم الجزائر حينها والقنصل الفرنسي، إذ قام أثناءها الحاكم حسين داي بضرب القنصل الفرنسي بمروحة يدوية، فاعتبرت فرنسا هذا الفعل إهانة واستخدمته كذريعة لشن حملة عسكرية في 1830، أدت إلى احتلال الجزائر وبداية الاستعمار الفرنسي الذي استمر 130 سنة حتى التحرير عام 1962.
بل حتى المحاولة المفبركة التي أشيع أن نظام صدام دبّرها لاغتيال الرئيس الأمريكي جورج بوش في الكويت، قد استخدمها الرئيس بيل كلينتون لضرب بغداد في العام 1993.
الرئيس ترامب يبحث عن أعداء، وان بعض الأحداث تقدم له المزيد من الفرص لممارسة تلك الهواية، وإن اغتيال تشارلي كيرك بالطريقة الدرامية التي جرى بها، تجلب “الأعداء” المفترضين الى تحت الأضواء.


