أيها العابثون بلغة الحطّ والرمي، يا من ظننتم أن المساس بكرامة الجنوب لعبةُ موسم وكلمات مرتجلة في ليل الصفقات العاهرة… إليكم كلمة التاريخ، مختومةً بالطين المقدس لا بالطين السياسي.
هؤلاء الذين تسمونهم “الشروكية”، هم الذين رصفوا طرقات هذا الوطن بأجسادهم قبل أن تحلموا بالموائد والبيوت المضيئة. هم الذين حملوا البنادق والرايات حين كانت بيوتكم تخيط الأعلام البيضاء من أستار الخوف. هم أول من صرخ في وجه المحتل، وآخر من انحنى، وأول من زرع الحقول المبللة بالدم، وأول من مات واقفاً قبل أن يعرف معنى الانكسار.
يا من تتحدثون عن “التقدم” و”التحضر” وتلمزون أبناء الهور والناصرية والعمارة والبصرة، تذكروا أن الفجر في العراق كان يولد دائماً من الجنوب، وأن بندقية الثورة كانت تتوضأ من مياه الأهوار قبل أن تتفجر في ثورة العشرين الكبرى، يوم كان الرجال هناك يوقعون على ميثاق الحرية بدمهم، لا بأحبار مؤتمرات الفنادق.
هؤلاء “الشروكية” الذين تحتقرونهم في تهويماتكم السياسية كانوا هم الذين أطاحوا بأول إمبراطورية استعمارية، وقادوا أعتى انتفاضات القرن، من انتفاضة الجنوب عام 1991 إلى انتفاضات الخبز والدم ضد الطغاة والفاسدين، حين كان بعضكم يقايض الرصاص بالسكائر المهربة.
يا صغار الكلمات…
يا من تحسبون الوطن شطراً في خطاب، أو سلعةً تساومون بها بين معسكر وآخر، هل سمعتم عن مدينة في الجنوب لم تبكِ شهيداً ولم تدفن بطلاً ولم تبنِ تمثالاً من الغبار والرجاء؟
يا رعاة الخواء…
نحن أبناء السهول الملتهبة والقصب العطشان، نحن الذين خُلقت منا ثوراتكم، وصُلبنا على صلبانكم، وسُحلنا على أرصفة الكلام، وأُجهضنا في حكاياتكم، ومع ذلك لم نغادر بوصلتنا.
أنتم أبناء اللحظة الطارئة ونحن أبناء الأرض الدائمة.
أنتم ملح الغبار ونحن تراب النهر.
أنتم زبد السياسة ونحن قاع التاريخ.
الشروكية الذين تلوكون أسماءهم بخبث هم الفقراء النبلاء، جيل الحقول والمواقد، رجال الماء والنار، أبناء الجراح الطرية والأحلام الخضراء. من بين أكواخهم خرجت أعظم القصائد، ومن صدورهم اشتعلت أعظم الثورات. من أيديهم سالت أنهار الرز في أهوار الموت، ومن جوعهم تعلمتم النشيد الوطني.
كان يمكن للجنوب أن يكون مزرعة لكم، لو لم يكن عقله أوسع من كل مؤامراتكم، وسيفه أطول من كل خناجركم، وصبره أعتى من كل خياناتكم.
أيها الطارئون،
نحن لم نطلب منكم يوماً أن تعترفوا بجميل الجنوب على العراق، لأننا نعرف أن الاعتراف يحتاج إلى ضمير، والضمير مات عندكم مذ اخترعتم للكرامة بورصةً وللأوطان مزاداً.
لكننا نقولها:
إن كانت خناجركم تنهش في لحم الجنوب، فإن لحم الجنوب يعرف كيف يعجن الموت بالتراب ويصنع منه غداً جديداً.
سيبقى هذا الجنوب المهان في قواميسكم، مرفوع الرأس في صحائف اللهب.
سيبقى محراثاً لا ينكسر، وشوكة لا تُنتزع، وزهرة لا تذبل تحت أقدام الطغاة.
أما أنتم، فستذهبون كما ذهب غيركم من قبل، ولن يبقى من ذكراكم سوى غبار الندم وصفحات الخزي، وستظلوا أنتم مجرد هامش صغير في رواية هذا الوطن الكبير، رواية كتبها الجنوب بالحبر الأحمر.