Search
Close this search box.

إيران في قلب السوق الأمريكية: استثمار استراتيجي أم إعادة هندسة للصراع ؟

إيران في قلب السوق الأمريكية: استثمار استراتيجي أم إعادة هندسة للصراع ؟
كانت إيران، لعقود طويلة، تُحاكم من خلال عدسة الثورة، لكنها اليوم تبدو وكأنها تختبر أدوات الدولة الحديثة. وإن أُتيحت لها فرصة تمرير هذا المشروع الاستثماري الطموح...

في ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، تلوح في الأفق مؤشرات خافتة من حيث الشكل، لكنها مشبعة بالرمزية ومحمّلة بدلالات استراتيجية عميقة. تشير هذه المؤشرات إلى احتمال دخول إيران إلى السوق الأمريكية من بوابة الاستثمار لا عبر آليات التصعيد التقليدية. وقد برز في هذا السياق تسريب لافت يُفيد باستعداد طهران لضخ استثمارات هائلة داخل الاقتصاد الأمريكي تتجاوز قيمتها أربعة تريليونات دولار على مدار اربع سنوات ، في خطوة تعكس تحوّلًا نوعيًا ومعقّدًا في أدوات التأثير الجيوسياسي التي توظفها إيران في المرحلة الراهنة.

وقد وردت هذه المعلومات في تغريدة نشرها الباحث محمد صالح صدقيان، الذي يُعدّ من المقربين من دوائر صنع القرار في طهران، مشيرًا من خلالها إلى معالم استراتيجية جديدة لا تكتفي بإعادة تموضع إيران في النظام الدولي، بل تسعى إلى استخدام أدوات اقتصادية كبدائل عن المواجهة العسكرية أو الأيديولوجية. وفي هذا الإطار، لم تعد الأسواق تُمثّل فضاءً تجاريًا فحسب، بل غدت ساحة بديلة للصراع والتأثير، يُستخدم فيها الاستثمار كوسيلة للنفاذ إلى مراكز القرار، وبناء شبكات المصالح، بدلًا من التورط في نزاعات مباشرة مع الخصوم ، حيث بات يُنظر إلى الاقتصاد باعتباره أداة اختراق سياسية وأمنية، قادرة على تعطيل مفاعيل العداء التقليدي، وربما خلق بيئة تفاهم مستقبلي .

وتتجسد هذه الخطوة غير المسبوقة في توجه إيران نحو الاستثمار في قطاعات حيوية كالصناعات النفطية والغازية، والبتروكيمياويات، والصناعات الثقيلة كالحديد والنحاس، فضلًا عن قطاع الطيران. ولا يمكن فصل هذه التحركات عن التحولات التي انطلقت مع الاتفاق النووي عام 2015، والذي دشّن مرحلة جديدة من التفكير الإيراني الاستراتيجي، يمكن تسميتها بـ”البراغماتية الثورية”؛ وهي مقاربة تدمج بين الطموح العقائدي ومتطلبات الفعل الواقعي، وتسعى لإعادة تعريف دور إيران كفاعل دولتي عقلاني داخل المنظومة الدولية.

وبهذا تتحرك طهران نحو استراتيجية مزدوجة: تثبيت الحضور في النظام الدولي لا عبر المواجهة، بل عبر الدخول في شراكة اقتصادية مشروطة قد تُفضي إلى إعادة ضبط التوتر المزمن بين البلدين.

هذه الاستثمارات المقترحة تمثل، في حال تحققها، نقطة تحول حاسمة، إذ تسعى طهران إلى تحقيق مجموعة أهداف متشابكة: أولها إحداث اختراق في الجدار السياسي الأمريكي عبر البوابة الاقتصادية، وثانيها تحسين موقعها التفاوضي في ملفات شائكة كالمفاعل النووي وبرنامج الصواريخ الباليستية، وثالثها تطويق الحضور الإقليمي للدول المنافسة من خلال أدوات السوق لا الحرب.

إن ما نشهده اليوم ليس مجرد مبادرة اقتصادية معزولة، بل مشروع سياسي مستتر بلغة السوق. فاستثمار مبلغ بهذا الحجم في الاقتصاد الأمريكي لا يمكن قراءته إلا باعتباره إعلان نوايا نحو تفكيك تدريجي لبنية الصراع التقليدي، وفتح قناة تواصل غير مباشرة مع واشنطن على أساس المصالح المتبادلة. وعلى الرغم من أن الإدارة الأمريكية قد لا تتجاوب مع هذه المبادرة، إلا أن طرحها بحد ذاته يعكس تحوّلًا في طبيعة الأدوات التي تستخدمها طهران ضمن معادلة الردع. فلم تعد إيران تراهن فقط على أدوات المقاومة أو المواجهة، بل باتت تدمج بين النفوذ الصلب والناعم، وتسعى إلى استدامة حضورها من خلال الاستثمار، لا من خلال الاشتباك.

في هذا السياق، يبدو العراق وكأنه ساحة اختبار مركزية لهذا التحوّل الإيراني أكثر من كونه مجرد متلقٍ لتبعاته. فمن جهة، يُمثل العراق ممرًا جغرافيًا طبيعيًا لأي تمدد اقتصادي إقليمي أو تفاهم سياسي واسع. ومن جهة أخرى، يشكّل ساحة حيّة للتقاطع الإيراني–الأمريكي، سواء في حالات التصعيد أو محاولات التهدئة. وإذا ما تطورت المبادرة الإيرانية إلى مشروع استراتيجي متكامل، فإن العراق قد يجد نفسه في موقع مركزي بين قوتين تتنازعان أدوات التأثير فيه، وقد يكون شريكًا في مسارات الحل، أو ضحية محتملة لأي انتكاسة غير محسوبة.

وبين شعارات الثورة ومتطلبات الدولة، وبين حسابات الردع ومقتضيات الربح، تتحرك طهران على حافة توازن دقيق في بيئة إقليمية شديدة التعقيد. تحاول من خلالها إعادة تشكيل ذاتها كقوة إقليمية عقلانية، تسعى إلى صياغة معادلات جديدة للتأثير من خلال أدوات أكثر مرونة وفاعلية. وإذا ما تم النظر إلى هذا التحوّل من زاوية الأمن الإقليمي، فإن العراق سيكون أول من يتأثر بآثاره، لا بوصفه خصمًا أو حليفًا، بل باعتباره ركيزة جغرافية واقتصادية لأي مشروع تهدئة أو إعادة تصعيد.

لقد كانت إيران، لعقود طويلة، تُحاكم من خلال عدسة الثورة، لكنها اليوم تبدو وكأنها تختبر أدوات الدولة الحديثة. وإن أُتيحت لها فرصة تمرير هذا المشروع الاستثماري الطموح، فقد نشهد بروز شرق أوسط جديد لا تسيّره صواريخ الردع، بل تُعاد هندسته عبر خرائط المصالح والاستثمارات العابرة للأيديولوجيا والعداء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *