دراما اللامعقول في القصيدة العربية

دراما اللامعقول في القصيدة العربية
يُدخلنا الشاعر في ذروة اللا معقول بمشهد درامي يمثل قمة الصراع بين الإنسان والموت الذي أخذ شكل الصياد وهو يقتنص العمر بأدواته...

إن أوّل ظهور لدراما اللامعقول كان في المسرح وتحديداً عند صامويل بكيت بمسرحيته (في انتظار جودو)، وما أحدثته من دهشة نزعت الفن من معقوليته وتقليديته، وتسللت إلى الفنون الأخرى وتداخلت معهما لا سيما الشعر، ومن يدقق في القصيدة العربية بالعقود الأخيرة سيلحظ حضور دراما اللا معقول، ويجد أنهما شيء واحد تقريباً؛ واجتماعهما بمشتركات كثيرة تبدأ من الجملة الشعرية التي تتحول إلى مشهد درامي يصنعه الخيال وتحضر الدهشة والصورة العالقة في ذهن المتلقي/ المُشاهد، وكلاهما (دراما المعقول والقصيدة) ينطلقان من بواعث نفسية تمثل حالة اللا معنى التي أنتجها زيف الواقع بالمقابل نلحظ المؤلف/ الشاعر يسند فكرته على عصا الوجودية ويضخم الفعل الدرامي بالنص الشعري، ومن اللافت للنظر أنَّ مصطلح (دراما اللامعقول) المتأسس في المسرح، والموجود في الشعر، في داخله علاقة متشابكة وهي الدراما التي تمثل الصراع واللامعقول التمرد على الصراع عبر توظيف صورة شعرية تغوص في أعماق النفس الانسانية والوجود.
وظهرت العديد من القصائد المعاصرة وكأنَّها فيلم شعري مثل ما نجده عند محمود درويش الذي يمكن عدّه رائداً عبر توظيف اللامعقول بشعره، ويوسف الصائغ، وسعدي يوسف ومحمد الثبيتي والأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن وجواد الحطاب ومحمد علي شمس الدين وعلي جعفر العلاق ومحمد ابراهيم يعقوب وعارف الساعدي وغيرهم

الموت: من المعقول التقليدي إلى دراما اللامعقول شعريا

من يتأمل البنية البصرية السينمائية يرى القيمة الشعرية التي حققها النص استفادت من تلك البنية ونرى أن القصائد جاءت متماسكة من حيث الشكل والمضمون، ولعل جدراية محمود درويش وهي قصيدة مطولة صدرت بديوان يحمل اسم القصيدة نفسه ويتكىء على موضوعة الموت فينهض اللامعقول منه، وهي فلسفة قائمة على علاقة الانسان بالعالم وتتميز بمعقولية مطالب الانسان ولا عقلانية العالم وهذا اللا تفهام تجسد بالدراما المسرحية كمسرحيات بكيت وكامو التي تعتمد في الأصل على الصور الشعرية المعقدة وهذه أهم وشائج العلاقة بينهما. والجدارية هنا فيلم شعري يتألف من أكثر من ثلاثين مشهدا وكل مشهد مكلل بلقطات وصور فوتوغرافية ومتحركة ويظهر محمود درويش بطلاً لفيلمه ويشاركه الموت في البطولة فيقول:”ويا موتُ انتظر، واجلس على الكرسي.
خذ كأس النبيذ، ولا تفاوضني، فمثلك لا يُفاوضُ أيَّ إنسانٍ، ومثلي لا يعارض خادمَ الغيب.
استرح..فلربّما أُنهكت هذا اليوم من حرب النجوم. فمن أنا لتزورني؟ ألديك وقتٌ لاختبار قصيدتي. لا.
ليس هذا الشأنُ شأنك. أنت مسؤول عن الطينيّ في البشريَّ، لا عن فعله وقوله.”

المشهد الشعري يتألف من أربع لقطات(يا موت انتظر، اجلس على الكرسي) تتحرك الكاميرا نحو لقطة (خذ كأس النبيذ) (استرح) وهي ذورة اللامعقول؛ لشعوره بسقوط عهود الأمل في العالم فقرر الشاعر أن يربي أمله مع الموت وهذا ما جعله يوقّع معه معاهدة السلام ويمنحه صفات الانسانية كما هو مبيّن في اللقطات السابقة، مقابل ذلك أن يترك الموت قصيدةَ الشاعر من دون اختبار؛ غير مسؤول عن (فعله وقوله) ونراه لا يفر من موته بل استطاع الشاعر محمود دوريش أن يواجه الموت بالشعر، وسَخّرَ لغته الشعرية التي كانت هي الكاميرا المتنقلة لتقوم بمهمة المواجهة على مسرح القصيدة فيسبق مشهد المواجهة هذا بمشاهد يومية تتخللها تساؤلات وجودية فيقول:

“أيُّها الموت انتظر! حتى أُعدَّ حقيبتي: فرشاة أسناني، وصابوني وماكنة الحلاقة والكولونيا والثياب.
هل المناخُ هُناك معتدلٌ؟ وهل تتبدل الأحوال في الأبدية البيضاء أم تبقى كما هي في الخريف وفي الشتاء؟
وهل كتابٌ واحدٌ يكفي لتسليتي مع اللّا وقت، أم أحتاجُ مكتبةً؟ وما لغةُ الحديث هناك، دراجةٌ لكل الناس أم عربيةٌ فصحى”

يحضر اللامعقول في مشهدٍ واقعي ويبدو أنه معقول وتقليدي من حياة الشاعر لولا صديقه الموت الذي ينتظره، ترصد الكاميرا لقطةً تجهيزه حقيبته التي تضم مستلزمات الحياة للاستعداد إلى رحلة مجهولة مع الموت، فاللقطة الأولى (أيها الموت انتظر حتى أعد حقيبتي) تقترب الكاميرا الـ zoom من الحقيبة والفرشاة والكولوينا وهذه اللغة اليومية تدعم شعور المتلقي/ المشاهد باللقطة وهي تمثل حالة اللا معنى والتي تشكل التساؤلات الوجودية في الحوار الخارجي مع الموت (هل المناخ معتدل؟ هل تتبدل الأحوال، هل كتاب واحد يكفي لتسليتي وما لغة الحديث هناك) تتجه الكاميرا نحو الكون وكيف نشعر بوجودنا لكن على الضفة الثانية من الغيب المجهول ( الأبدية البيضاء) والذي يتحقق عبر ثلاثية رصدها الشاعر (المناخ اللغة الكتاب) وما لها من دلالات حبلى بالتأويل خرجت من واقعنا اليومي إلى واقع الأبدية البيضاء وهذا الخروج يمثل انعدام المعنى من الحياة لذا مصاحبة الموت والتصالح مع فكرته من دون الخوف وتصوير الوجود بتساؤلات يحقق معنى الجدارية التي أراده درويش.

تتنقل كاميرا الشاعر إلى تصوير شكل الموت وصورته والحوار الذي يجمعهما بقوله: “اجلس على الكرسيّ! ضعْ أدوات صيدك تحت نافذتي. وعلق فوق باب البيت سلسلة المفاتيح الثقيلة! لا تُحدّق يا قوي إلى شراييني لترصدَ نقطة الضعف الأخيرة. أنت أقوى من نظام الطبّ. أقوى من جهاز تنفّسي. أقوى من العسل القويّ ولست محتاجاً ــــــــ لتقتلني ــــــــــ إلى مرضي.”

يُدخلنا الشاعر في ذروة اللا معقول بمشهد درامي يمثل قمة الصراع بين الإنسان والموت الذي أخذ شكل الصياد وهو يقتنص العمر بأدواته، نراه يستعملُ الأفعال ذات الحركة البصرية (اجلس / ضع أدواتك صيدك/ علق فوق الباب سلسلة المفاتيح) فهذا المشهد الداخلي المكون من الصورة والحركة والصوت وهذا ميدان السينما والمشترك مع الشعر أيضاً، ويهيء درويش متلقيه نحو مشهد المواجهة الفعلية بينه وبين شريكه البطل الثاني (لا تحدق يا قوي إلى شراييني لترصد نقطة الضعف) عند النظر إلى فعل التحديق وموضعه نرى طاقة اللغة الشعرية، وهي تخلقُ لقطة درامية تعجز الكاميرا عن صنعها وهي: يحدق الموت بشرايين الإنسان وهو لا يرقد على سرير المرض فهذه الصدمة رفعت من قيمة المشهد وحققت معنى التنقاض والممكن في الحياة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *