Search
Close this search box.

ترامب وثلاثة سيناريوهات أمام بغداد

ترامب وثلاثة سيناريوهات أمام بغداد
كل هذه السيناريوهات تتطلب تدبيرًا وإدارة داخلية معقدة، يلعب فيها دور البرلمان، والتيارات السياسية، والرأي العام، والمرجعيات الدينية الشيعية...

المقدمة

في السنوات الأخيرة، شهدت العلاقات بين الولايات المتحدة والعراق تأثيرات عدة ، من أبرزها دور الجماعات المسلحة العراقية ومكانتها في الهيكل السياسي لحكومة بغداد. وفي هذا السياق، أحدث طلب بعض أعضاء الكونغرس الأمريكي بإدراج الحشد الشعبي العراقي ضمن قائمة المنظمات الإرهابية جواً جديداً من التوتر والقلق. وقد قُدم هذا الطلب رسميًا من قبل عدد من النواب إلى وزير الخارجية الأمريكي، مما قوبل بردود فعل متفاوتة داخل العراق. يراه البعض تكرارًا لمشروع قديم يهدف إلى تقييد النفوذ الإيراني في العراق، فيما يعتبره آخرون يفتقر إلى الأساس القانوني الواضح. من ناحية أخرى، أعلن دونالد ترامب، رئيس الولايات المتحدة، مرة أخرى عن نيته اتباع نهج أكثر حزمًا تجاه الجماعات المسلحة الموالية لإيران في العراق. وقد أثار هذا الموقف تساؤلات جدية بين المراقبين السياسيين حول مصير حكومة محمد شياع السوداني وهيكل العراق الداخلي. فهل ستستطيع الحكومة العراقية اتخاذ الخطوات اللازمة للابتعاد عن هذه الجماعات؟ وهل ستتشكل التحولات الجديدة تحت تأثير الاتفاق المحتمل بين أمريكا وإيران بشأن القضية النووية؟

 

1.وراء ضغوط ترامب على الحشد الشعبي: الاستراتيجية الجديدة لواشنطن في العراق

أکد دونالد ترامب بصراحة علی ضرورة حل الحشد الشعبي، وقد مارس ضغوط باستمرار على حكومة العراق لتحقيق هذا الهدف. يعتبر الحشد الشعبي، وخاصة الفروع القريبة من إيران، عقبة كبيرة أمام سياسات الولايات المتحدة، ويعتقد أن هذه الجماعات، من خلال تسهيل نفوذ طهران في بغداد، تهدد فعليًا مصالح وحضور أمريكا في العراق. ولتحقيق أهدافه في هذا الصدد، اعتمد ترامب على دعم بعض التيارات السياسية العراقية التي لا تعارض فقط تملك الحشد الشعبي للسلطة، بل تصفه أيضًا بكونه تهديدًا خطيرًا للديمقراطية الناشئة في العراق وعائقًا أمام تنمية البلاد. ومن وجهة نظر هذه التيارات، يُعد الحشد الشعبي أداة لتوسيع النفوذ الإقليمي لإيران بدلاً من أدائه لدوره كقوة وطنية دفاعية. وفي هذه الظروف، فإن هدف ترامب ليس مجرد حل قوة عسكرية، بل يسعى إلى إضعاف الهياكل الموالية لإيران، مما يمهد الطريق لتحقيق الاستراتيجية الإقليمية للولايات المتحدة القائمة على كبح طهران والتحكم في معادلات الأمن في العراق.

 

2.القاعدة السياسية لحكومة السوداني وتحدي تجاوز الجماعات المسلحة

صعدت حكومة محمد شياع السوداني إلى السلطة بدعم ائتلافي من الأحزاب والجماعات الشيعية، من ضمنها تلك المعروفة باسم «محور المقاومة». وقد لعبت هذه الجماعات دورًا حاسمًا في تشكيل الحكومة، وقد أعلنت مرارًا وتكرارًا أن حكومة السوداني هي «حكومة الجماعات المسلحة» و«حكومة المقاومة». وبالتالي، فإن أي ضغط خارجي لحل أو إضعاف هذه الجماعات يؤثر مباشرة على مكانة رئيس الوزراء.

وبحسب الشمري، تمتلك حكومة العراق أدوات محدودة عمليًا، وحتى وإن حاولت شراء الوقت عبر تقديم خطة لدمج الجماعات المسلحة ضمن الهيئات الأمنية أو الشرطة الفيدرالية، فمن المحتمل أن تواجه معارضة من الكونغرس الأمريكي. لدى الأمريكيين ملفات تُظهر أن بعض هذه الجماعات قد شنت في السابق هجمات ضد القوات الأمريكية. ولهذا، فإن حتى تغيير السلوك الظاهري أو إعلان الولاء للحكومة المركزية لا يمكن أن يمنع فرض العقوبات أو ضغوط واشنطن؛ إذ إن القرار النهائي يعود إلى الكونغرس وفقًا لتقييمهم لـ «مستوى التهديد».
وعلاوة على ذلك، وفقًا لتحليل الشمري، فإن قدرة السوداني على التفاوض في البرلمان محدودة أيضًا؛ إذ إن العديد من النواب الشيعة، الذين يشكلون الأغلبية، ملتزمون بهذه الجماعات المسلحة، ومن المتوقع أن يُبدوا رداً سلبيًا في حال طرح فكرة حل أو إضعاف هذه الجماعات. ونتيجة لذلك، تجد الحكومة العراقية نفسها في موقف صعب؛ فمن ناحية، تسعى إلى كسب رضا الولايات المتحدة لتفادي العقوبات الاقتصادية أو السياسية، ومن ناحية أخرى، لا يمكنها الابتعاد كثيرًا عن مؤيديها الرئيسيين الذين يكفلون بقاءها السياسي.

3.ثلاثة سيناريوهات مستقبلية

بالنظر إلى المناخ السياسي الحالي وتأكيد الكونغرس الأمريكي على ممارسة الضغوط على الجماعات المسلحة العراقية، وإلى جانب ميل حكومة العراق إلى الحفاظ على مؤيديها الداخليين، يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات محتملة أمام بغداد:

السيناريو الأول: توطيد التحالف مع إيران واحتمال تطبيق عقوبات أمريكية واسعة

في هذه الحالة، تقرر حكومة العراق الحفاظ على علاقاتها مع الجماعات المسلحة الشعبية وتعزيزها، وأن تسیر في  خندق واحد  مع إيران. والنتيجة الطبيعية لمثل هذا السيناريو هي تشديد العقوبات الأمريكية ضد العراق، مما قد يؤثر على النظام المصرفي والمعاملات المالية وحتى تبادلات النفط في البلاد. وقد يؤدي ذلك إلى زيادة الاستياء الشعبي، إذ إن اقتصاد العراق يعتمد بشدة على عائدات النفط، وأي عقوبة قد تؤثر بسرعة على الحياة اليومية للمواطنين. وفي هذا السيناريو، يقع العراق أكثر تحت دائرة تأثير طهران، لكنه سيتعين عليه مواجهة تحديات محتملة مثل اضطرابات الشوارع أو احتجاجات اقتصادية.

السيناريو الثاني: الانقسام الداخلي في النظام السياسي وتشكيل ائتلافات متضادة

يقوم هذا السيناريو على الانقسام داخل النظام السياسي في العراق. فقد يميل جزء من التيارات السياسية الشيعية أو الجماعات الأخرى نحو واشنطن، مدركين ضرورة تجنب العقوبات الأمريكية، بينما يظل الآخرون مصرين على دعم محور المقاومة. وقد يؤدي هذا الوضع إلى خلق شقاق داخلي لا يضعف فقط استقرار الحكومة، بل يؤدي أيضًا إلى تشكيل ائتلافات برلمانية جديدة. في هذه الظروف، ستضطر الحكومة إلى إقامة توازن حساس بين رضا واشنطن ومرافقة الجماعات المسلحة الداعمة لها. وإذا لم يتحقق هذا التوازن، فإن احتمال سقوط الحكومة أو إجراء انتخابات مبكرة سيرتفع.

السيناريو الثالث: محاولة اتباع استراتيجية وسطية وتسوية توافقية

في هذا السيناريو، تسعى بغداد عبر التفاوض وتقديم ضمانات أمنية للولايات المتحدة، مع الحفاظ في الوقت ذاته على هيكل الجماعات المسلحة ضمن إطار قانوني، لتخفيف حدة التوترات. وقد تقترح حكومة العراق دمج بعض هذه الجماعات بالكامل ضمن القوات الرسمية للدولة (كالجيش أو الشرطة الفيدرالية أو الهيئات الأمنية)، مقابل أن تسعى الولايات المتحدة إلى تقليص النفوذ الإيراني عبر المسار الدبلوماسي مع الامتناع عن فرض عقوبات واسعة.

الخاتمة

يمر العراق الآن بمرحلة من أكثر المراحل حساسية في تاريخه. فمن ناحية، تحكم حكومة محمد شياع السوداني بدعم الجماعات المسلحة الشيعية، وهي بحاجة إلى دعمهم للحفاظ على بقائها. ومن ناحية أخرى، أعلن ترامب بوضوح أن الجماعات الموالية لإيران في العراق تشكل تهديدًا لمصالحه ولمصالح حلفائه، وأنه غير مستعد لقبولها ضمن الهيكل السياسي للعراق. في هذا السياق، تحمل السيناريوهات الثلاثة المطروحة أمام بغداد كلٌ منها تكاليفه وتبعاته الخاصة:

  1. تعميق التحالف مع إيران مع تحمل مخاطر العقوبات الواسعة واستياء واشنطن؛
  2. خلق شقاق سياسي داخلي في العراق، حيث قد يميل بعض التيارات نحو الولايات المتحدة فيما يظل البعض الآخر مع إيران؛
  3. محاولة تحقيق تسوية سياسية أمنية وسطية، تسعى من خلالها بغداد إلى لعب دور أكثر توازنًا عبر دمج محدود للجماعات المسلحة ضمن الهيكل الرسمي لتجنب فرض عقوبات شديدة.

كل هذه السيناريوهات تتطلب تدبيرًا وإدارة داخلية معقدة، يلعب فيها دور البرلمان، والتيارات السياسية، والرأي العام، والمرجعيات الدينية الشيعية. كما يجب ألا ننسى أن العراق لا يزال يعاني من مشاكل اقتصادية وبنيوية واجتماعية عميقة، وأن تصاعد العقوبات الخارجية أو الانقسامات الداخلية قد يزيد الأمور تأزماً. ومن ناحية أخرى، إذا ما أثمرت جهود الولايات المتحدة وإيران للتوصل إلى اتفاق نووي جديد أو لإحياء الاتفاق السابق، فقد يفتح ذلك نافذة لتخفيف التوتر في العراق؛ أما إذا ما اشتدت الخلافات بين واشنطن وطهران، فمن المرجح أن تتصاعد الضغوط على بغداد.

وفي النهاية، يعتمد مصير العراق على قدرة حكومته على إدارة التباين بين المصالح الوطنية والضغوط الخارجية. فلن تستطيع حكومة السوداني، على الأقل في المدى القصير، قطع الدعم عن الجماعات المسلحة أو حلها؛ ومع ذلك، فهي مضطرة إلى السعي وراء حلول وسطى وتخفيف التوتر لتفادي تفاقم العقوبات. من هذا المنطلق، فإن مستقبل العراق ليس مهمًا فقط للمنطقة، بل أيضًا للتوازن الجيوسياسي العالمي، حيث إن تشكيل أي تحالف جديد أو تعميق الانقسامات الداخلية قد يحمل عواقب كبيرة على ميزان القوى بين إيران والولايات المتحدة وباقي الفاعلين في الشرق الأوسط.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *