المالكي: ظاهرة التأثير السياسي خارج السلطة

المالكي: ظاهرة التأثير السياسي خارج السلطة
يُبرز النص أن نوري المالكي ما زال يشكّل قوة سياسية جوهرية في العراق، رغم غيابه عن المناصب التنفيذية، بفضل قاعدة شعبية وسجل أمني وبنياني عميق، ما يجعله رمزاً للقيادة القوية ويعيق محاولات إعادة توزيع السلطة داخل التحالفات الشيعية....
في المشهد السياسي العراقي، لا يثير حصول رئيس الوزراء محمد شياع السوداني على نسب مرتفعة من الأصوات دهشة المراقبين، فالرجل يمتلك أدوات السلطة وموارد الدولة، ويستند إلى شبكة تنفيذية وإعلامية واسعة تمكّنه من تعزيز حضوره وتأثيره في الشارع. هذه النتائج، وإن بدت كبيرة رقمياً، فإنها انعكاس طبيعي لقوة الموقع الحكومي، لا بالضرورة لقوة القاعدة السياسية.

علماً أن قائمة الاعمار والتنمية التي حصلت على (45) مقعداً لم تضم السوداني وحده، بل جاءت نتيجة تجميع انتخابي واسع تشكّل من سبعة تحالفات مختلفة، منها تحالف إياد علاوي، وفالح الفياض رئيس هيئة الحشد الشعبي، وأحمد الأسدي وزير العمل، ومحمد الصيهود رئيس حركة أجيال، ومحمد صاحب الدراجي، وتحالف نصيف الخطابي محافظ كربلاء. أي أننا أمام تحالف مصالح وتجمع انتخابي مؤقت، أكثر من كونه كتلة سياسية متجانسة ذات مشروع واضح أو رؤية موحدة. هذا التجمع قابل للتفكك باي لحظة.

في المقابل، أكدت دولة القانون مجدداً حضورها السياسي والتنظيمي المتماسك، بعد أن تمكنت من حصد نحو (30) مقعداً انتخابياً خالصة باسمها، من دون أن تستند إلى تحالفات جانبية أو دعم حكومي مباشر، بل في ظل حملات إعلامية وسياسية مكثفة استهدفت زعيمها السيد نوري المالكي وقيادتها. ومع ذلك، أثبتت التجربة أن هذا الائتلاف ما زال يحتفظ بقاعدته الصلبة وولائه الجماهيري العميق، الممتد في أوساط الشارع الشيعي والوطني على حدٍّ سواء، ما يعزز مكانته كإحدى الركائز الثابتة في المشهد السياسي العراقي.

أما الملاحظة الأبرز والأكثر دلالة، فهي استمرار السيد نوري المالكي كفاعل سياسي ثقيل الوزن رغم خروجه من دائرة السلطة التنفيذية منذ سنوات. فحجمه الانتخابي والشعبي لم يتراجع بتقادم الزمن أو تبدل الظروف، بل بقي يمثل مدرسة سياسية وتنظيمية متكاملة تستند إلى منهج “دولة القانون” وإلى رؤية مؤسساتية للدولة والحكم.

كيف يمكن تفسير ذلك؟ ولماذا بقي المالكي رقماً صعباً رغم تغيّر المعادلات والوجوه؟

الجواب لا يكمن فقط في قدرته التنظيمية أو حضوره التاريخي، بل في ما يمكن تسميته بـ”ثبات الذاكرة السياسية” لدى جزء واسع من الجمهور الشيعي الذي يرى فيه رمز الدولة القوية، والمرحلة التي امتلكت فيها بغداد قرارها السياسي والأمني المستقل نسبياً. فبرغم كل ما قيل عن أخطاء تلك الحقبة، فإن المالكي نجح في تأسيس الدولة العراقية الجديدة وبناء مؤسساتها والحفاظ على نظامها السياسي، وتثبيت صورة الزعيم الحازم الذي واجه الإرهاب، ورفض الانصياع للإملاءات الإقليمية والدولية، وحافظ على وحدة القرار داخل “المكون الشيعي” في زمن الانقسام الحاد.

اليوم، بعد سنوات من التراجع والابتعاد عن مواقع القرار، ما يزال الرجل يحتفظ بنسبة ملحوظة من الجمهور، بل ويتحول في بعض المحافظات إلى “المنافس الحقيقي” لصاحب السلطة ونفوذ الدولة. وهذه الظاهرة تشير إلى أن المالكي لم يعد مجرد شخصية سياسية عابرة، بل أصبح *ظاهرة اجتماعية – سياسية* ترتكز على قاعدة ولاء متينة تتغذى من شعور قسم من المواطنين بالحنين إلى “دولة النظام والهيبة”، مقابل ما يرونه اليوم من ضعف وتشتت وازدواج في القرار.

ورغم الحملات الإعلامية المكثفة التي استهدفته منذ خروجه من الحكم، لم تفلح تلك الجهود في تفكيك صورته داخل وجدان جمهوره. على العكس، ربما أسهمت تلك الحملات في تعزيز إحساس أنصاره بأنه “مظلوم سياسياً” أو أنه “دُفع خارج السلطة بقرار خارجي”، وهو خطاب وجد صداه في الشارع.

لكن الأهم من كل ذلك، هو أن المالكي  برغم كل ما يحيط به من جدل، ما يزال يمثل *مؤشراً على مزاج الشارع الشيعي المحافظ*، الذي يبحث عن قيادة قوية وواضحة، لا عن تحالفات رمادية أو شعارات توافقية بلا مضمون. إنه بعبارة أدق: تعبير عن الذاكرة الأمنية والسياسية لمرحلة العراق الصلبة، بكل ما فيها من تناقضات.

ومن المفارقات البارزة، أن خصوم المالكي قبل أنصاره يشهدون له بصلابة عزيمته، ووضوح مواقفه، وصدقه في التعامل مع الحلفاء والخصوم على حد سواء. فقد عُرف عنه أنه لا يطعن في الظهر، ولا يساوم على المبادئ، وأن خصومته سياسية لا شخصية، يمارسها بفروسية واحترام، دون أن يتنازل عن ثوابته. حتى ألدّ أعدائه يقرّون له بالشجاعة والإخلاص في العمل العام، وبكرم النفس، وصبر المقاتل، وصلابة الرجل الذي لا ينكسر أمام العواصف.

هذه الصفات، بكل ما تحمله من رمزية أخلاقية، ساهمت في تكوين ما يمكن تسميته بالهالة أو الهيبة السياسية للمالكي، التي تتجاوز مجرد الزعامة الحزبية إلى صورة “الرمز” الذي لا يمكن تجاوزه في أي معادلة قادمة.

انعكاسات الثبات على مستقبل الإطار والتحالفات الشيعية

إن استمرار المالكي في حيازة هذا الرصيد الشعبي والسياسي، رغم غيابه عن السلطة، له أثر عميق على بنية الإطار التنسيقي وتوازناته الداخلية. فوجوده يمنح الإطار ثقل التجربة، والقدرة على مواجهة الاستحقاقات الكبرى بصلابة، لكنه في الوقت نفسه يشكل تحدياً أمام محاولات بعض القوى “إعادة توزيع الزعامة” أو فرض قيادات بديلة بلا عمق جماهيري.

المعادلة المقبلة في البيت الشيعي لن تُحسم فقط بالتحالفات السياسية أو التفاهمات الوقتية، بل بقدرة كل طرف على الاحتفاظ بقاعدته التاريخية. وفي هذا الميدان، يظل المالكي متقدماً بخطوات، لأنه بنى حضوره على تراكم الثقة والذاكرة لا على مؤقتات السلطة

ومهما حاول خصومه إقصاءه أو التقليل من دوره، يظلّ المالكي رقماً ثابتاً في المعادلة السياسية العراقية، وعنصراً لا يمكن تجاوز تأثيره في موازين القوة داخل المشهد الوطني. ورمزاً لمرحلة ما زال صداها يتردد في الوعي الشعبي. وهو ما يجعل حضوره المستمر، رغم الغياب عن الكرسي، ظاهرة تستحق القراءة بعين سياسية لا بعين الخصومة.

ارجو ان تكون التعليقات والمداخلات بمستوى الطرح، وهي بكل تاكيد تعبير عن صاحبها.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *