الدينار والدولار: من يقرر مصير اقتصاد العراق؟يعود الحديث في العراق بين فترة وأخرى عن مشروع إلغاء الأصفار من العملة الوطنية، في إطار ما يروّج له أحيانا كحلّ فوري يعزز الثقة بالدينار ويحدّ من التضخم. غير أن هذه الفكرة، رغم بساطتها الشكلية، تكشف عن خلل أعمق في طريقة التفكير الاقتصادي، إذ تحاول معالجة نتائج الخلل لا أسبابه. فإلغاء الأصفار في جوهره إجراء تقني شكلي، لا يمسّ بنية الاقتصاد ولا يغيّر واقع القوة الشرائية، بل يقتصر على تحسين المظهر النفسي للنقود وتسهيل التعاملات الحسابية. •الأهداف المعلنة لإلغاء الأصفاريسوق المشروع عادة على أنه– خطوة إصلاحية تهدف إلى تبسيط الحسابات المالية وتقليل الأرقام الكبيرة في الفواتير والمعاملات المصرفية. – كما يقدّم على أنه وسيلة لتعزيز الثقة النفسية بالعملة الوطنية عبر الإيحاء بأن الدينار أصبح “أقوى” في قيمته الاسمية، رغم أن قوته الشرائية لن تتغير فعليا. – ومن بين الأهداف المعلنة أيضا، إصدار أوراق نقدية جديدة مزوّدة بتقنيات أمان حديثة للحدّ من التزوير. لكن هذه المبررات تبقى سطحية ما لم تستند إلى إصلاح اقتصادي فعلي يغيّر القيمة الحقيقية للدينار. •العملية التقنية وثمن التنفيذإلغاء الأصفار لن يغيّر في الواقع الاقتصادي شيئا، فإذا كان سعر الدولار يساوي 1450 دينارا قبل الإلغاء، فإنه سيعادل 1.45 دينار بعده، أي أن المشكلة لا تزال قائمة. أما من حيث الكلفة، فيقول المختصون، ان عملية طباعة العملة الجديدة وتوزيعها وتحديث الأنظمة المصرفية قد تتجاوز 2.5 مليار دولار، تشمل كلفة الطباعة وإعادة البرمجة وحملات التوعية العامة، وهي أموال يمكن أن توجّه بدل ذلك إلى مشاريع إنتاجية تخلق قيمة حقيقية. • تجارب دولية محفوفة بالمخاطرشهدت دول عدة تجارب متباينة في هذا المجال، فزيمبابوي ألغت الأصفار أكثر من مرة دون أن توقف التضخم، لأن أسباب الأزمة كانت هيكلية لا نقدية. أما تركيا، فنجحت جزئيا في تجربتها لأن العملية رافقتها إصلاحات اقتصادية جذرية، وجذب استثمارات خارجية حسّنت من موقع الليرة. وبناء على ذلك، فإن نجاح الإلغاء مرتبط بمدى قوة الاقتصاد، لا بعدد الأصفار المحذوفة. • شروط نجاح إلغاء الأصفارلكي يكون إلغاء الأصفار خطوة إصلاحية حقيقية، لا بد من توافر ثلاث ركائز أساسية:1-الاستقرار الاقتصادي الكلي: عبر انخفاض مستقر في معدلات التضخم وتحسّن في المؤشرات المالية العامة. 2-توافر السيولة والاحتياطي النقدي: تأمين عملية استبدال العملة بسلاسة ومنع الارتباك في الأسواق. 3-إصلاح النظام المصرفي والإداري: تحديث البنية التحتية المالية وضمان التعامل الآمن مع العملة الجديدة. وبدون هذه المقومات، يصبح المشروع مغامرة شكلية تضاف إلى سجل التجارب غير المكتملة. •البدائل الواقعية قبل التفكير في الإلغاءيرى الخبراء أن الطريق الأقصر نحو تقوية الدينار لا يمر عبر حذف الأصفار، بل عبر إصلاح الهيكل الاقتصادي الريعي الذي يجعل العراق رهينة لتقلبات أسعار النفط. ويتطلب ذلك-دعم الصناعة والزراعة والخدمات الإنتاجية. -وتقليص الاعتماد على الإنفاق الحكومي الممول بالنفط. – وتعزيز الاحتياطي النقدي للبنك المركزي. إضافة إلى ترسيخ الشفافية والمساءلة المالية لبناء ثقة حقيقية بالعملة الوطنية. ملاحظات مهمة– إلغاء الأصفار تغيير في الشكل لا في القيمة. – الشعور النفسي بقوة الدينار لا معنى له دون اقتصاد منتج. -التجارب الناجحة في العالم سبقتها إصلاحات اقتصادية شاملة، لا إجراءات شكلية. •التوصيات1-تأجيل مشروع الإلغاء إلى ما بعد تحقيق استقرار اقتصادي حقيقي. 2-ربط أي قرار في هذا المجال بخطة إصلاح شاملة تهدف إلى تنويع الاقتصاد وتقوية الإنتاج المحلي. 3-اعتبار الإلغاء خطوة تكميلية تأتي بعد الإصلاح، لا قبله، لتكون جزءا من تحوّل نقدي فعلي وليس خدعة تجميلية. •اخيراإلغاء الأصفار من الدينار العراقي ليس حلا اقتصاديا، بل انعكاس لرغبة في البحث عن اختصار الطريق. فالقوة الحقيقية للعملة لا تستعاد بالحذف، بل بالإنتاج، ولا تبنى بالرموز النفسية، بل بالإصلاح الهيكلي الجاد. إن استعادة الثقة بالدينار تمر عبر بناء اقتصاد قوي ومتنوّع ومستقل، وحين يتحقق ذلك، سيصبح إلغاء الأصفار تحصيلا حاصلا لواقع مالي سليم، لا محاولة لتجميل أزمة قائمة. المصادر:1-البنك المركزي العراقي (2024): دراسة جدوى إلغاء الأصفار. 2-البنك المركزي التركي (2024): تقرير تجربة الليرة التركية الجديدة. 3-دراسات اقتصادية عراقية (2024): تحليل تكلفة الإصلاح النقدي وإلغاء الأصفار. |


