إرسال مبعوث خاص للعراق بدلاً من تعيين سفير: قراءة استراتيجية

إرسال مبعوث خاص للعراق بدلاً من تعيين سفير: قراءة استراتيجية
تعيين مبعوث خاص أمريكي للعراق يعكس تحولاً في النفوذ الأمريكي، ويستغل ضعف المؤسسات والسياسة الداخلية، فيما يوصي المقال بالعناية بالشفافية واستعادة المبادرة المؤسسية لحماية السيادة والحدّ من التدخل الخارجي....

يُعَدّ تعيين الرئيس ترامب مبعوثاً خاصاً إلى العراق، مارك سافايا، منعطفاً سياسياً لافتاً في مسار العلاقة بين واشنطن وبغداد، ليس فقط لأنه تجاوز التقاليد الدبلوماسية المألوفة بإرسال مبعوث بدلاً من سفير، بل لأنه يعكس فلسفة جديدة في إدارة النفوذ الأمريكي داخل الشرق الأوسط، كما ارسل المستثمر الأمريكي من أصول لبنانية توم باراك الى لبنان وسوريا، حيث تتحوّل الدبلوماسية من أداة للتفاهم إلى وسيلة للضغط وإعادة التموضع.

هذا القرار الذي جاء وسط انقسامات داخلية عراقية عميقة، وأزمة ثقة مزمنة بين القوى السياسية، ومشهد إقليمي متوتر، يُعيد طرح سؤال قديم بوجه جديد: هل ما زال العراق دولة ذات سيادة فعلية أم ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات الدولية؟

أولاً: من هو مارك سافايا

مارك سافايا، الأمريكي من أصول عراقية مسيحية، يقدَّم بوصفه رجل ترامب الموثوق في الملف العراقي. شارك في حملته الانتخابية، وساهم في حشد نحو ثلاثين ألف صوت من الجالية العراقية في الولايات المتحدة. لكن ما يجعل تعيينه مثار جدل ليس فقط خلفيته السياسية، بل أيضاً نشاطه التجاري المثير للجدل في مجال بيع الحشيش الطبي بولاية ميشيغان، وهي مفارقة لافتة حين يُستدعى شخص بهذه السيرة ليمثل إدارة أمريكية في بلد محافظ اجتماعياً ودينياً مثل العراق.

وتزداد الشكوك مع ما تسرّب من معلومات منشورة على صفحة مؤسسة المدى العراقية عن حصوله على خمسة ملايين دولار من السلطات العراقية قبل مباشرته مهامه، في ما وُصف بأنه “صفقة لشراء الرضا الأمريكي”. حتى وإن بقيت هذه المزاعم في خانة التسريبات غير المؤكدة، فإنها تسلط الضوء على طبيعة العلاقة المشوَّشة بين بغداد وواشنطن، حيث تلتبس الحدود بين النفوذ السياسي والابتزاز الاقتصادي، وبين التمثيل الدبلوماسي وصفقات النفوذ الشخصية.

ثانياً: المبعوث بدل السفير – دلالة تتجاوز الشكل البروتوكولي

في الأنظمة الدبلوماسية الكلاسيكية، يمثل السفير قناة التواصل الشرعي بين الدول، ويجسّد حالة من الاستقرار المؤسسي في العلاقات. أما المبعوث الخاص فهو صيغة غير تقليدية، تُستخدم عادة في الملفات المتفجرة أو البلدان التي تفتقر إلى استقرار سياسي واضح. وحين قرر ترامب إرسال مبعوث خاص إلى بغداد دون تعيين سفير، يريد أن يبعث برسالة مزدوجة للحكومة العراقية مفادها: أما أن يرى العراق دولة غير مستقرة أو غير مؤتمنة على إدارة شراكة استراتيجية طويلة الأمد. أو أنه يريد التعامل مع العراق من خارج القنوات الرسمية، أي عبر شبكة نفوذ، ورجال اتصال، وشخصيات محلية يمكن التأثير فيها أو توظيفها ضمن أجندته الشخصية خارج سياقات ادارة البيت الأبيض.

وهذه الخطوة تحمل معنى أعمق من مجرد إجراء إداري، فهي تكرّس أسلوب ترامب في الدبلوماسية الشخصية القائمة على “التكليف الشخصي المباشر”، لا على العمل المؤسسي، وتجعل السياسة الخارجية أداة ضمن منطق الصفقة التجارية لا الشراكة الدبلوماسية الدولية.

ثالثاً: أزمة الداخل العراقي – كيف فتحت الأبواب للتدخل الخارجي؟

ترامب، لا يُنظر إلى العراق كدولة ذات مؤسسات راسخة، بل كساحة رمادية بين النفوذ الإيراني والاحتياج الأمريكي، وميدان لتوازن القوى في المنطقة. واشنطن تتعامل مع بغداد كملف أمني لا سياسي، فتفضّل القنوات غير الرسمية: كمبعوثين خاصين، كاتصالات استخبارية، ومجموعات ضغط محلية. كما تفعل مع لبنان وسوريا، هذه المقاربة تعكس فقدان الثقة بالنظام العراقي المنقسم على ذاته، والذي حوّل خلافاته الداخلية إلى شكاوى خارجية.

ترامب، الذي لا يؤمن بالدبلوماسية التقليدية، يرى أن العراق لا يحتاج إلى سفير، بل الى “مفاوض ميداني” يساوم الجميع ويفرض واقع النفوذ الأمريكي اللامؤسسي، القائم على الأشخاص والصفقات لا على القوانين.

بلا شك هناك أزمة بنيوية يعاني منها النظام السياسي، من انقسام المكونات وغياب الثقة وتدويل القرار الوطني من قبل بعض الأطراف السياسية. وهذا يفتح الأبواب أمام التدخلات الخارجية، هناك بعض السياسيون من يستدعي الخارج عند كل مأزق. والأخطر أن بعض ممن يدعون المعارضة خارج او داخل العراق،  يرفعون تقارير مضللة لفريق ترامب لتشويه صورة الدولة ونظامها السياسي، وتضخيم النفوذ الإيراني قصداً، ما جعل العراق ساحة مفتوحة لمن يملك المال أو النفوذ.

رابعاً: الاقتصاد العراقي رهينة النظام المالي الأمريكي

حتى على الصعيد المالي، يظل العراق مكبّلاً بقيود الارتباط بالنظام المصرفي الأمريكي، إذ تُودع عائدات النفط في البنك الفيدرالي الأميركي، وتخضع التحويلات المالية لرقابة صارمة من وزارة الخزانة الأمريكية. وهذا الوضع يمنح واشنطن أداة ضغط اقتصادية هائلة على القرار العراقي، إذ يمكنها بسهولة تعطيل أو تأخير التحويلات أو فرض شروط تنظيمية بحجة مكافحة الفساد أو غسل الأموال.

إن هذا الترابط المالي، الذي بدأ منذ عام 2003 كآلية لحماية الأموال العراقية من الدعاوى القانونية، تحوّل اليوم إلى وسيلة ضغط ورقابة اقتصادية وسياسية تُقيّد قدرة بغداد على الحركة المستقلة، وتجعل أي خلاف سياسي مع واشنطن مكلّفاً للغاية.

خامساً: توصيات للحكومة والبرلمان والأحزاب

1.تفعيل القنوات الرسمية سريعاً، من خلال إعلان حكومي واضح يوضّح مهام المبعوث والحدود التي ستعمل ضمنها بعثة الولايات المتحدة، وطلب تبادل وثيقي للولاية والصلاحيات. هذا يقطع الطريق أمام التأويل ويؤكد احترام السيادة.

2.حماية البروتوكول الدبلوماسي، من قبل وزارة الخارجية العراقية يجب أن تطالب بتنسيق مسبق في الملفات الحساسة وتطلب أن يكون هناك ضابط اتصال برتوكولي مع أي مبعوث يحمل رسالة رئاسية.

3.موقف البرلمان، مطالب بالاستيضاح علناً عن مهام المبعوث والضمانات القانونية التي تحمي مصالح الدولة. الصمت يزيد الغموض ويقوّي روايات التدخل.

4.مواجهة الحملات الإعلامية المضللة، عبر جهاز إعلامي رسمي يوضّح الحقائق (خاصة ما يتعلق بالاقتصاد والسيادة واحتياطات الدولة) ويوضح بعض الأمور المهمة مثل فرض سيطرة مباشرة للفيدرالي الأميركي على أموال العراق.

5.تفعيل السياسة الداخلية لمعالجة أسباب طلب التدخل الخارجي، وتقليل الظواهر التي تدفع الفاعلين السياسيين للبحث عن دعم خارجي، وحل الخلافات داخل الإطار المؤسساتي، وعدم اللجوء للشكوى الدولية كبديل عن الإجراءات المحلية. هذه هي الجبهة الأهم لإغلاق أبواب التدخل.

أن تعيين مبعوث خاص لا يعني بالضرورة عداء أو رغبة فورية في السيطرة، لكنه إشارة، إما إلى اهتمام أميركي فائق بمسائل العراق، أو إلى إحجام عن استئناف علاقات مؤسسية كاملة، أو إلى خيار تكتيكي للتعامل مع ملفات حساسة خارج إطار البروتوكول. الرد العراقي الأمثل يبدأ بالشفافية، استعادة المبادرة المؤسسية، ومعالجة الأسباب الداخلية التي تجعل الأطراف تبحث عن ملاجئ خارج الدولة. التصرف بصمت أو الانفعال الشعبي دون خطة مؤسسية سيزيد الفراغ ويمنح واشنطن أدوات تفاوضية إضافية عبر هذا المبعوث.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *