من يقرأ التاريخ جيدًا سيدرك أن علاقة إيران بالقضية الفلسطينية لم تكن وليدة انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، بل تعود جذورها إلى عقود سابقة حين وجد الثوار الإيرانيون في فلسطين قضية كبرى تتجاوز حدود الجغرافيا والسياسة لتلامس عمق الهوية الإسلامية وكرامة المستضعفين. لذلك فإن اختزال الموقف الإيراني واعتباره مجرد شماعة للنفوذ أو ورقة للمساومة ليس سوى قراءة سطحية تتجاهل حقائق راسخة في التاريخ والوعي الجمعي الإيراني.
لقد جسدت شخصيات ثورية بارزة مثل نواب صفوي ومصطفى شمران هذا الارتباط العميق حين انخرطوا في صفوف المقاومة الفلسطينية قبل نجاح الثورة بسنوات طويلة، وحملوا السلاح إلى جانب الفدائيين الفلسطينيين. كان ذلك التزامًا وجدانيًا وعقائديًا لا يهدف إلى تحقيق مكاسب سياسية آنية، بل يعبر عن رؤية شمولية تعتبر فلسطين ساحة مركزية في الصراع مع الاستعمار والهيمنة. ومن هنا أصبحت فلسطين جزءًا أصيلًا من تكوين الهوية الثورية الإيرانية، وليست واجهة لتوسيع النفوذ كما يحلو للبعض تصويرها.
من هذا المنطلق يطرح سؤال مفصلي يردده بعض المتابعين لماذا لا تتنازل إيران عن فلسطين وتعود إلى سياسة الشاه التي جعلت منها شرطيًا للمنطقة في خدمة واشنطن وتل أبيب؟ الجواب يكمن في طبيعة الثورة ذاتها. فالتخلي عن فلسطين يعني التخلي عن العقيدة التي قامت عليها الثورة الإسلامية، أي نصرة المستضعفين والوقوف بوجه الاستكبار، وهذا انتحار فكري وسياسي لا يمكن للجمهورية الاسلامية الإقدام عليه. ثم إن دعم فلسطين وحركات المقاومة منح إيران عمقًا استراتيجيًا وجعلها لاعبًا إقليميًا أساسيًا في مواجهة المشروع الأمريكي الصهيوني، وبالتالي فإن التراجع عنه سيعني خسارة موقعها في المعادلة الجيوسياسية. أضف إلى ذلك أن الالتفاف الشعبي داخل إيران حول القضية الفلسطينية يمثل ركيزة من ركائز الشرعية الثورية، وأي تنازل عنها سيكون بمثابة ضربة لهذه الشرعية من الداخل.
إن الطريق الأسهل أمام إيران لو أرادت مجرد النفوذ كان الانسجام مع واشنطن وتل أبيب، كما فعل الشاه سابقًا، فذلك كفيل بإعادة تثبيتها كقوة وظيفية في المنطقة. غير أن اختيارها للتمسك بفلسطين رغم الكلفة الباهظة يبرهن على أن القضية بالنسبة لها ليست ورقة تفاوضية، بل خيار وجودي عقائدي وهوية راسخة. ولهذا فإن السؤال الحقيقي لا ينبغي أن يكون لماذا تتمسك إيران بفلسطين؟ بل كيف أصبحت فلسطين جزءًا من وعي الإيرانيين ووجدانهم بحيث باتت خيارًا لا رجعة عنه، يحدد موقعهم ودورهم في المنطقة والعالم ؟


