رحل الكاتب العراقي الكبير داود الفرحان 1943-2025، أشهر كاتب عراقي ساخر برؤية نقدية للظواهر الاجتماعية والسياسية، وصاحب الجملة الأشهر في الأوساط الصحفية “البقاء للأصلع” بدلاً عن البقاء للأصلح الجملة التي تختصر عوالم البقاء والتطور وفق نظرية دارون، قالها الفرحان عندما أُعْفِي من وظيفته في صحيفة الجمهورية حينذاك، وأسندت إلى الشاعر سامي مهدي رحمه الله، ليكون رئيسا للتحرير.
داود الفرحان كان يكتب عموداً أسبوعياً في مجلة ألف باء، الأكثر تميزا ونجاحا واحترافا مهنيا في العراق، برغم المضايقات التي كانت تتعرض لها والعيون المحدقة بها من قبل الجهات الرقابية والحزبية والأمنية وغيرها، كان الفرحان يمتاز بعقلية إعلامية فذة، وقدرة عالية على تحويل أية حكاية إلى عمود صحفي ساخر بفكرة نقدية تنحاز إلى الجمهور، وتنغز السلطات، ولعل أكثر العناوين التي تألق بها، كان عموده الأسبوعي في ألف باء بعنوان “بلد صاعد، بلد نازل” مقارنات بين الحياة في اليابان والعراق، كان يجلد الحكومة آنذاك بمراوغة لغوية تستوعبها لغة الصحافة، وينتجها عقله بمرونة متمكنة.
كان يتفوق على قدرات الكاتب المصري محمود السعدني، بلغته الصحفية الساخرة وقدرته على صياغة الحكايا، لكن اختلاف المناخات السياسية والاجتماعية وظروف الكتابة والنشر بين البلدين حجمت من شهرة وانتشار الفرحان على النطاق العربي، بخلاف الكبير محمود السعدني!
القمع والرقابة المستمرة
إن ظروف العراق السياسية وموقف السلطات المتزمت والقامع لمفهوم الحرية والرافض لكل أشكال النقد، ونظرا لموقفه الشخصي من أخطاء القيادات السياسية البليدة، جعلت نظرة السلطة وعناوينها الرئاسية تقرر منع الكتابة والنشر للكاتب الكبير داود الفرحان، كذلك تعرض للاعتقال والحبس، وللتاريخ فإن المنع شمل بذات القرار كل من الكاتب الكبير حسن العاني وكذلك الكاتب الكبير حاتم حسن، أعتقد أن القرار استمرّ حتى سقوط نظام صدام عام 2003، ثم علمنا أن القرار جاء من المدعو (عبد حمود) المستشار الخاص للرئيس صدام حسين.
بعد 2003، ومع مجيء السلطات الجديدة، استمر تجاهل الكفاءات الصحفية الحقيقية، بما في ذلك داود الفرحان. تم استحداث مكاتب ومؤسسات إعلامية جديدة، لكنها افتقرت إلى فهم الواقع العراقي العميق، مما جعل الفرحان وزملاءه يعيشون ظل إهمال مستمر. كما أن ضعف الدعم المؤسساتي والثقافي أدى إلى تضييق مساحة النقد البناء، واستمرار القيود غير الرسمية على المحتوى الصحفي. رغم هذه التحديات، استمر الفرحان بالكتابة بإبداعه المعتاد، محافظاً على صوته النقدي، ومذكراً الجميع بقوة الصحافة الحرة وأهميتها في مواجهة التزمت والرقابة.
ورغم استمر أستاذنا حسن العاني بالكتابة والنشر، لكن ليس باسمه، بل كان ينشر بأسماء بعض الزملاء والزميلات وأكثرهم شجاعة كان الزميل جواد الحطاب.
ما حدث بعد 2003 ومجيء سلطات ثقافية وإعلامية تجهل العمق العراقي ومعاناة قطاعي الإعلام والثقافة وخفاياه، استمر التعامل بإهمال مع العنوان الكبير داود الفرحان وغيره من الكتاب والفنانين والعاملين في ميادين البحث والفكر، تلك هي الأزمة ذاتها، مفهومزوثقافة الحرية التي يفتقد لها العقل السياسي المأزوم حين يمتلك السلطة!


