مدخل
لا يدهشني في النص الشعري، بعد الصورة المغايرة، سوى أن يصدمني بما لا يمكن توقعه. قد يكون ما يطرحه النص مألوفاً ومن صميم الواقع، لكننا بعد لحظة الصدمة نقول: هذا موجود، غير أن السؤال يظل: كيف التقطه الشاعر وحوّله إلى شعر مختلف؟
إن الشعرية، في جوهرها، مشبعة بالواقعية، لأن الواقع ذاته أحياناً أشد إدهاشاً من أي عالم افتراضي. بل إن الواقع، حين يلتقطه الشاعر بصفائه ومراراته، قد يتحول إلى الدهشة بعينها.
من هنا ندخل إلى تجربة الشاعر منذر عبدالحر، وهي تجربة متفردة، شقّت مسارها بوعي شعري وإخلاص طويل الأمد. فهي تجربة لا تقبل القسمة إلا عليها، وقد ارتقت مع الزمن إلى مستوى من النضج يجعلها إحدى العلامات في المشهد الشعري العراقي.
النص والدهشة
في كتابه مختارات منذر عبدالحر الصادر عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق (بغداد، 2024) بعنوان ماس القصائد، نقرأ نصوصاً تمثل مراحل زمنية مختلفة من منجزه. وفي هذه المختارات تبرز قدرة الشاعر على تحويل اليومي والمألوف إلى نص يوقظ الدهشة.
يقول عبدالحر في قصيدة اعتراف متأخر:
أيتها الأم البعيدة
ولدك الوسيم
الذي يطربك سؤال الصبايا عنه،
الذي رمت عليه الحرب وشاحها
وأطفأت في عينيه الخطى،
وعلّمت أصابعه التهم،
وجبينه النفي،
وشفتيه التمتمة بالوداع…
(ص 5 – 8)
العلاقة بين الأم والحرب لا يمكن أن تكون إلا علاقة وجع وفقدان وبكاء. الحرب تنتصر دائماً في الميدان، لكن دموع الأمهات تبقى العلامة الفارقة في طريق الأبناء الجنود. هذه القصدية لدى عبدالحر تؤكد أن قصيدة الحرب تُكتب بهذا الوعي الممزوج بالدمع والصدمة.
قصيدة الحرب
إن حضور الحرب في قصائد عبدالحر لا يقتصر على تسجيل وقائعها، بل يتجاوز ذلك إلى استبطان أثرها في الروح الإنسانية، وفي الأمومة على وجه الخصوص. الحرب هنا ليست حدثاً عابراً، بل هي كائن دائم يترك بصماته على الذاكرة والجسد واللغة.
الشعر والاختزال
كنت قد كتبتُ في كتابي الاختزال الشعري (منشورات جريدة الصباح، 2006):
“كيف يكتب الشاعر الآن؟ أو بالأحرى: كيف يكتبنا الشعر ونحن في هذا القرن المسرع في كل شيء، المتطور حدّ اللعنة بهذه البرامجيات التي تطوي العالم في قرصها الصغير؟ هذه الآفات الحبيبة والجميلة تأخذ كل أشيائنا بلا رحمة. فماذا يفعل الشاعر؟”
وأجبت هناك أن الشعر سيظل قادراً على الدفاع عن ملكوته واستيعاب التطورات، لأنه حالة روحية سرمدية، قابلة للتمدد والانكماش وفق حرارة الكون والطقس الأدبي السائد. ولأن الشعر العراقي تحديداً عاش أقسى التجارب، فقد استطاع أن يعيد تشكيل العالم في نصوص مكثفة، قصيرة، تختزل السوداوية وتفتح أفقاً إنسانياً.
فرائس: مثال آخر
في قصيدة فرائس من نفس الديوان، نقرأ:
تقدمتَ
مستخفا بغاياتك،
يحفّ بك الجناة،
وتقودك الأضاحي.
يهابك المستترون براياتهم.
أبناؤك الموغلون بالترقب
سكبوا آهـات من الشرفات،
وغرسوا العطب في الفجر.
(ص 9 – 13)
هنا نرى كيف يُبنى النص على صورة كثيفة تختزن التراجيديا والرمزية، حيث يتحول الجسد الجمعي (الأبناء) إلى أداة للتأمل في الخسارة والفقد.
خاتمة
على غلاف الكتاب نقرأ في تقديم متأخر:
“منذر عبدالحر مدرسة في كتابة قصيدة النثر بصورتها الطازجة وبصمتها العراقية.”
وأنا أضيف: إن عبدالحر يكتب قصيدته بوعي شخصي، وبطريقة مختلفة، ضمن ما يراه مناسباً لحياته وشعره وحضوره الثقافي. إنه شاعر يترك للزمن مهمة إنصاف تجربته، ويكتفي بأن يكون شاهداً صادقاً على عصره، وعلى صدماته الناعمة التي تتحول في نصوصه إلى شعر صافٍ وعميق.
