شهدت جمهورية نيبال الديمقراطية الاتحادية في أيلول/سبتمبر 2025 حدثاً سياسياً مدوّياً، حين خرج آلاف الشباب من جيل Z الى الشوارع غاضبين من الفساد وتقييد الحريات وحجب وسائل التواصل الاجتماعي، لينتهي الأمر بسقوط الحكومة في مشهد بدا للبعض انتصاراً تاريخياً للديمقراطية الشعبية. لكن خلف هذا المشهد الرومانسي للاحتجاجات، تكمن حقائق أكثر تعقيداً، نيبال ليست بلداً معزولاً، بل ساحة تنافس محتدم بين الصين والهند، وفي السنوات الأخيرة بين بكين وواشنطن أيضاً. من هنا، فإن الثورة النيبالية لم تكن مجرد حراك شبابي عفوي، بل نتيجة تداخل عوامل داخلية وخارجية، سياسية واقتصادية وجيوستراتيجية.
هذا المشهد أغرى بعض الكتاب والناشطين العراقيين بالدعوة لتكرار التجربة وذهب البعض الى مقارنتها مع انتفاضة تشرين عام 2019، غير أن أي تحليل موضوعي يكشف أن استنساخ التجربة النيبالية في العراق أمر مستحيل، لأسباب سياسية وأمنية ودينية واجتماعية وتاريخية متشابكة، تجعل العراق حالة مختلفة تماماً عن نيبال.
*أولاً: أبعاد ما جرى في نيبال*
العامل الداخلي: الحكومة النيبالية القائمة لم تكن مجرد سلطة فاشلة إدارياً، بل منظومة هشة قائمة على شبكة مصالح تقليدية من المحسوبية وغياب آليات محاسبة فعّالة، مما أفرز شعوراً واسعاً بالإحباط وفقدان الثقة بالمؤسسات. على هذا المسرح، تتصارع الأحزاب الشيوعية الداخلية المتناحرة، مستندة بعض الفصائل إلى دعم صيني، بينما يسعى الحزب الليبرالي إلى تعزيز نفوذه عبر تحالفات مع الهند، ما يحول السياسة الداخلية إلى ساحة نفوذ إقليمي متشابك. في المقابل، يظهر جيل Z النيبالي كقوة خارج الأحزمة الحزبية التقليدية، يتميز بوعي رقمي، وقدرة على التواصل والتعبئة السريعة، ويشعر بالإقصاء من شبكة الفساد السائدة، تتقاطع هذه العوامل لتخلق حالة قابلة للاشتعال.
العامل الخارجي: رغم أن مشهد الشارع بدا عفوياً، يقوده شباب جيل Z الغاضب من الفساد وحجب الإنترنت، إلا أن تقارير متعددة – من مواقع هندية مثل SSB Crack Exams و KKN Live الى Times of India أشارت بوضوح إلى وجود أصابع أمريكية في خلفية الاحتجاجات.
مما اكد أن هناك تمويل ودعم أمريكي مباشر، عبر “اتفاقية التحدي الألفي” (MCC) التي ضخت 500 مليون دولار للبنية التحتية والطاقة، جاء الالتزام الأمريكي في لحظة حساسة بالتزامن مع تصاعد الغضب الشعبي.
وكعادتها امريكا تستخدم أدواتها الناعمة، وذلك من خلال تحريك منظمات المجتمع المدني المرتبطة بـ NED (المؤسسة الوطنية للديمقراطية) التي تستثمر في بناء شبكات شبابية لسنوات. وهناك بعض التقارير لناشطين على منصة X ذكرت أن منظمة Hami Nepal التي قادت الحراك، لها روابط مباشرة بـ NED، وأن “طلاب التبت” المدعومين أمريكياً كانوا جزءاً من المشهد.
مما جعل المواجهة الرقمية تاخذ مدياتها في الصراع، حيث قامت شركات التكنولوجيا الأمريكية بعدم الالتزام بقرار حظر وسائل التواصل الاجتماعي في نيبال، بينما التزمت المنصات الصينية. هذه المفارقة أبرزت كيف تتحول الشركات العالمية إلى أدوات في صراع النفوذ بين واشنطن وبكين.
كذلك تم توظيف البعد الديني والثقافي في حلبة الصراع، حيث أشاد تقرير مجلة Swarajya (magazine) بالدور الذي لعبه التبشير المسيحي الأمريكي بعد زلزال 2015 في بناء شبكات نفوذ اجتماعية قد تكون استُثمرت لاحقاً سياسياً.
رغم أن الاحتجاجات انتهت بسقوط الحكومة، وصُوّرت إعلامياً على أنها “ثورة شبابية خالصة”، إلا أن الواقع أعقد من ذلك بكثير. فالتحولات التي شهدتها نيبال لم تقتصر على تغيير داخلي، بل مثلت خطوة في لعبة نفوذ جيوسياسي أكبر، حيث تتصارع الولايات المتحدة والصين في جنوب آسيا على النفوذ السياسي والاقتصادي، وتُستثمر طاقات الشباب والتقنيات الرقمية كأدوات لإعادة رسم موازين القوى، بما يجعل ما بدا ثورة محلية في العمق جزءاً من صراع استراتيجي دولي.
*ثانياً: المقارنة مع العراق*
من حيث السياسة والسلطة: نيبال بلد صغير نسبياً، محاط بقوتين إقليميتين أساسيتين فقط، الهند والصين، ما يجعل أي حركة احتجاجية قابلة للتوجيه أو الاستثمار ضمن نطاق محدود نسبياً. أما العراق، فهو عقدة جيوسياسية معقدة، مفتوحة على تداخل نفوذ إيران وتركيا والخليج وأمريكا وإسرائيل، وكل فراغ سياسي أو أمني يتحول فوراً إلى ساحة صراع متعدد الأطراف. في هذا السياق، أي احتجاج شعبي أو حراك شبابي لا يملؤه جيل Z وحده، بل تتسلل إليه فصائل ارهابية وقوى إقليمية تبحث عن مصالحها، ما يحوّل أي محاولة للتغيير إلى احتمالية انزلاق نحو الفوضى العنيفة بدل أن تكون مساراً ديمقراطياً منظماً.


