الخلاف بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وبين رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، يُذكّرني بواقعة الخلاف بين الرئيس الأسبق لمجلس الوزراء العراقي، وبين المحافظ الأسبق للبنك المركزي العراقي.
كان يفترض أن يكون الأمر مجرّد خلاف حول “الإدارة المالية والسياسة النقدية”، وهي “حالة عامّة” لخلاف “تقليدي” يمكن أن يحدث بين أيّ محافظ للبنك المركزي، وبين أيّ رئيس للسلطة التنفيذية.
النظام العراقي والولايات المتحدة
الفَرق و”العِبرَة” بيننا، وبين دولة مؤسسات راسخة كالولايات المتّحدة الأمريكية (وفي دول أخرى كثيرة)، هي أنّ “الرئيس”، مهما كان مستوى “الطيش” الذي بلغه، أو مهما بلغَ مدى ايمانهِ بـ “الحماقات الاقتصادية” التي يرتكبها، أو مهما كانت مصادر قوّته السياسية (وهو هنا زعيم أكبر قوّة اقتصادية وعسكرية في العالم)، فإنّهُ لن يجرؤ على “إقالة” المحافظ إلاّ بعد إجراءات طويلة ومُعقّدة، قد تتسبّب بخسائر جسيمة للأسواق، وأضرار فادحة للاقتصاد، وقد تترتّب عليها أيضاً “سياسيّاً واجتماعيّاً “عواقب وخيمة (على البلدِ وعلى”رئيسه”معاً).
دونالد ترامب طالَبَ رئيس البنك الاحتياطي الفيدرالي مراراً بخفض أسعار الفائدة، ولآنّهُ لم يفعل ذلك فقد وصفهُ ترامب بـ”الأحمق”، وبأنّهُ “لا يمتَلِك أي فكرة عن الاقتصاد”.
مع ذلك فإنّ دونالد ترامب لا يجرؤ على إقالة جيروم بأول، ولا على تعيين بديلٍ عنه، قبل انتهاء مُدّةِ رئاسة باول لمجلس الاحتياطي الفيدرالي. وبهذا الصدد قال وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت إن البيت الأبيض يتوقع أن يبدأ الخريف المقبل في إجراء مقابلات مع المرشحين لخلافة رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) الذي تنتهي ولايته في مايو/أيار 2026.
كيف يُدار الخلاف في العراق بين المحافظ والرئيس
لدينا لا “يزعل” الرئيس على”المُحافِظ” اذا لم يخضع الأخير لرغباته(كما هو حاصلٌ الآن بين ترامب وباول)، بل يقوم الرئيس بـ “اجتثاث” المُحافِظ (لأنّهُ هو من يقوم بتنصيبهِ أصلاً، وبـ “الوكالة”)، أو يُحيلهُ إلى القضاء لأنّهُ يرفضُ الإذعانَ لأوامرَ تنفيذيّة يعتقِد المحافِظ أنّها تُعَد مخالفةً صريحة للقانون النافدِ المُنَظّم لعمل البنك، ولممارسة صلاحيات المحافظ.. بينما “هناك”، في أمريكا “المُتوحِّشة” يرفض “المُحافِظ” حتّى مقابلة الرئيس، ويُصرِّح إنه “لم ولن يطلب مقابلة الرئيس.. لأنّ هذه سابقةٌ لم تحدث من قبل ولا أتخيّلُ نفسي أفعلها”.
لماذا يا جيروم باول، ترفضُ مقابلة الرئيس؟ ألا يكفيك رفضكَ القاطِع لأوامر الرئيس بتخفيض سعر الفائدة؟
يُجيب باول: “لا يوجد سبب يدفعني لطلب لقاء الرئيس. لطالما كان الأمر على العكس من ذلك”، إذ غالباً ما يطلب الرئيس لقاء رئيس الفيدرالي.. المبادرة لا تأتي من الفيدرالي، ولكن من الرئيس”.
وفعلاً قام ترامب بذلك، وتمّ اللقاء في البيت الأبيض(30-5-2025)، حيثُ أكّد البيت الأبيض و”البنك المركزي الأمريكي” أنهما التقيا بدعوة من ترامب، في تجديد لعلاقة متوترة شهدت توبيخ ترامب لباول مراراً بسبب عدم خفض تكاليف الاقتراض(من خلال خفض أسعار الفائدة)، وهو الإجراء الذي يرغب فيه الرئيس ترامب، بينما يرى رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي “أنه وزملاءهُ في “اللجنة الاتحادية للسوق المفتوحة” سيحددون السياسة النقدية، مثلما يقتضي القانون، لدعم الحد الأقصى من التوظيف واستقرار الأسعار، وسيتخذون تلك القرارات بناء على تحليل دقيق وموضوعي وغير سياسي فقط”.
تخيّلوا ماذا كان سيحدث لـ “لمحافِظ” لدينا لو رفضَ مقابلة “الرئيس” دون دعوةٍ منه، وماذا كان سيحدثُ له بعد أوّلِ خلافٍ عميقٍ مع “السيّد الرئيس” حول أولويات السياسة النقديّة.
لدينا (وفي بلدان كثيرةٍ تشبهنا) يكونُ “الأمرُ” بسيطاً للغاية، ويكون “حَلُّ” الخلافِ أيضاً “ساذِجاً” للغاية.
لدينا.. يقومُ “السيّدُ الرئيس” بـ “إقالة” المحافظ وهو خارج العراق (يشارك –مثلاً- في اجتماع لمحافظي البنوك المركزية في بلدٍ ما برعاية صندوق النقد الدولي).. ولا يكتفي “السيّد الرئيس” بذلك، بل يقومُ بإصدارِ أمر اعتقالٍ بحقّه (وهو خارج العراق) ومن ثمّ اجبارهِ (تلقائيّا) على عدم العودة، و”نفيهِ” قسراً، والحكم عليه بعد ذلكَ بالسجن بتهم فساد عديدة، إلى أن يموتَ لاحِقاً في منفاه، بعد سنينَ عديدة من جهودٍ حثيثةٍ للدفاعِ عن نفسه وسمعةِ عائلته، وسيرتهِ العلمية والمهنيّة.
لذلك.. لا بنك مركزي “مُستَقِّل” لدينا، ولا مُحافِظ يتمتّع بالحصانة، ولا سياسة نقديّة فاعلة و كفوءة.
لدينا فقط.. “السيّد الرئيس”.
وأخشى أن يتدخّل “السيّد الرئيس” (في سنة مالية انتخابيّة عويصة) ليُجبِرَ البنك المركزي على الرضوخ لطلب وزارة المالية الاقتراض من البنك المركزي بصورة “حوالات مخصومة” ، وقيدهِ “دَيناً” على الحكومة “الحاليّة”، و تحويله إلى”خازوق” للحكومة القادمة، بهدف تغطية الرواتب والأجور والتضخيم المنفلت للإنفاق الجاري.


