نهر دجلة أعتزّ به العالم ، ولم يهتم به أهله أبداً

نهر دجلة أعتزّ به العالم ، ولم يهتم به أهله أبداً
يُعتبر نهر دجلة من الأنهار العظيمة في العالم ويعاني من إهمال شديد من قبل سكان العراق، مما أدى إلى جفافه. رغم قيمته الكبيرة في الحياة الاقتصادية والزراعية، لا تزال الموارد المائية غير مُدارة بشكل صحيح، مما يهدد مستقبل المنطقة....

دجلة عشقه المعّري  والجواهري 

دجلة من أعظم أنهار  الدنيا  في ذاكرة  جوستن بيركنس ( نموذجاً)

نهر دجلة: من الأنهار العظمى في العالم، ويعد أقدمها قاطبة. ينتسب لفظ “دجلة” إلى اللفظ العبراني “جي دكل” الذي يعني: شدة جريانه وسرعته على حد سواء. وأما اللفظ اللاتيني ‘Tigris’ فقد جاء عن ‘Tighal’ الزندية والناشئة من كلمة (تيغ = Tig) السنسكريتية، بمعنى “حاد. يبلغ طوله 1146 ميلاً ( تفصيلات وافية عن تاريخية نهر دجلة وجيولوجيته وطبوغرافيته.. تجدها في :

The New Encyclopeadia Britannica, vol. 18, ed. 1974, pp. 6-402.

هذا النهر العظيم القديم الذي  يجري مسرعاً  شهد  أزمنة غابرة ، وأرتوت منه  كائنات شتى  ،  ويمتلك عذوبة لا نجدها في كلّ أنهار الدنيا كونه يمر في مناطق غنية بالكالسيوم  ويمتلك من الينابيع  الكبريتية  التي تثري  عناصره  الطبيعية  ، واذا كان توأمه الفرات  أطول منه  ، ويلتقيان  في جنوبي العراق، فقد سميا بالفراتين أي العذبين ، ولكن كثر ذكر الفرات متفوقاً على ذكر دجلة  .. وكان يطغى فيضانهما في ربيع كلّ عام  فيغرقان حوضيهما والمدن والقرى المطلة عليهما في اليمين والشمال  ، وكان فيضانهما يسبب  كوارث  وفجائع ..  كانا سبباً في توالد حضارات كلاسيكية واهتمت بهما  سلالات من زعماء واباطرة وملوك في دول وامبراطوريات عدة تعاقبت على العراق ..ومن متابعتي لكل من الفراتين والنيل في التاريخ المقارن، وجدت أن المصريين اهتموا بنهر النيل أكثر من اهتمام العراقيين  بنهريهما، واعتقد أن ذلك بسبب تدمير فيضانتهما  الارض العراقية على عكس النيل  الذي  أسماه المصريون بـ “هبة مصر”! ومن المثير للعجب حقاً  ان المجاعات كانت تفتك بمدن العراق  والفراتين يمتلآن بأنواع  الاسماك وأحسنها  ولها سلالات قديمة جداً ، ولكن الناس كانت تموت جوعاَ ، وهي مفارقة لا أجد لها أي تفسير حتى اليوم ؟

 كان سحر دجلة  محل اعجاب كل زوّار بغداد، فقد انشد  أبو العلاء المعرّي (973 -1057م) يتغنى بمائه ونخيله، قائلاً:

وردنا ماء دجـلة خير ماء         وزرنا اشرف الشجر النخيلا

وتغّزل  الجواهري  به منذ  عام 1923 :

لها الله ما أبهى ودجلةُ حولها       تلف كما التف السوارُ على الزندِ

وقال :

يا دجلةَ الخيرِ يا نبعاً أفارقُهُ      على الكراهةِ بين الحِينِ والحين

توصيف  جوستن بيركنس ( 1805- 1869م ) لنهر دجلة الخالد

هذا  المبشر الاميركي زار  كردستان عام 1848 واقام  في مدينة  اورمية الواقعة شمال غرب ايران  عدة سنوات، وزار الموصل ونشر رحلته في عدة رسائل في مجلة الجمعية الجغرافية الاميركية عامي 1848 – 1849  ، وقد قمت بترجمتها ، ونشرها في كتاب  بعنوان ” رحلة جوستن بيركنس : الاميركي الأول في العراق ”  . فماذا قال عن دجلة  ؟  ( انظر رسالته

The Letter No. 18, dated 12/05/1849; JAOS, op. cit., pp. 109-111

ضفاف دجلة

وصل بيركنس ضمن القافلة إلى الضفة الشرقية من نهر دجلة، وحطوا رحالهم وكانوا متعبين، ولم يستطيعوا أن يتبّينوا ما كان يحيط بهم من مناظر إلا مياه دجلة المتماوجة مع حركاتها على نحو باهت من انوار القمر الخافتة .. فخيموا على الأرض لقضاء ساعات الليل.  أخذهم النوم عميقًا بعد انتهاء رحلتهم الدراماتيكية التي انطلقوا بها من أورمية شمال غربي ايران عبر ممرات جبال كردستان الجميلة ..  ووصولهم الارض الكلاسيكية في نينوى  ..

كان النسيم عليلاً منعشًا على حافة نهر دجلة، لم يفيقوا حتى مطلع الفجر حين كشف عليهم ضوء الصباح بنوره الوهاج بارتفاع الشمس من مهجعها وغلبت على السماء الزرقة الجميلة بعد أن خفتت وبسرعة الألوان المبهرجة في آفاق الشرق .. ولاح لهم ذلك النهر المهيب بانسيابه الهادئ .. إنه دجلة Tigris، النهر الشهير في الدنيا ذو العراقة التاريخية المتأصلة المتزامنة مع عصور سحيقة في القدم. وبدت أمامهم مدينة الموصل على الساحل المقابل للنهر العظيم ، وهي ذات مظهر شرقي حقيقي.. مع جوامعها العظيمة ومنائرها الشاهقة، وأبنيتها المتراصة. أما على جانبهم الشرقي ، فقد امتدت أطلال مدينة نينوى القديمة التي كانوا قد مروا من خلالها في الليلة المنصرمة..

جسر الموصل

يرتبط كل من جانبي النهر بجسر يتمدّد من قلب الموصل غربًا نحو الحافة الشرقية .. ويقوم على زوارق مرتبط بعضها بالآخر بصورة متراصة قاطعة النهر. وهي زوارق قديمة مبنية على نحو بدائي وبصورة ضخمة ومسطحة، مع علو بارز لقيدومها إذ ترتفع رؤوسها المدببة بشكل ملفت للنظر، وبالرغم من أن كلّ زورق لم يكن متروكًا على الشاطئ بدون دعامة أو سند، إلا أنه يعوم منحدرًا لأكثر من نصف ميل، وعندما يراد سحبه ، فإن ذلك يجري بواسطة ستة أو ثمانية رجال يقفون صفًا واحدًا في رتل طويل على شاطئ النهر الممتد نحو الجسر.، وتعوم الزوارق الخشبية المشتد بعضها مع الآخر بواسطة الجلود المنفوخة التي تخضع لاستعمالات مهمة أخرى، فإنها تستعمل لنقل المسافرين في دجلة نحو بغداد، لنقل البضائع التجارية والمؤن عبر دجلة والمسافة  ثلاثمائة ميل جنوبا .  وقد حدد تُخم بغداد الكولونيل وليامز Col. Welliams – المعين والقائم بأعمال التفويض الإنكليزي في الموصل، وهو الذي كان قد ذهب جنوبًا إلى بغداد منذ فترة قصيرة وذلك بواسطة عوامة تحتوي على مائة قربة جلدية منفوخة قاطعًا المسافة المذكورة أعلاه بطريق دجلة في ستة أيام، متوقفًا عند شواطئه خلال ساعات الليل، وكان قد سافر معه بعض الموصليين الذين يستعملون الأخشاب الطوافة، وكان لدى الكولونيل وليامز ثلاث أو أربع كابينات صغيرة نصبها على تلك العوامة الكبيرة التي اشغلها هو وجماعته الكبيرة من المرافقين.  ان جسر القوارب يستعمل عندما لم يكن النهر ذا منسوب عالٍ، بالوقت الذي تسحب لترسو هناك في ظروف استثنائية طارئة عند ارتفاع مناسيب مياه دجلة.   إن دجلة عموماً  له مجرى منحدر، وسريع الجريان إلى حد بعيد، وعليه فإن اسمه تايكرس Tigris يدل معناه على ما يميزه إذ يعني هذا الاسم (السهم) دالاً على سرعته الكبيرة . وحوضه رحب جدًا .ولكن تكثر فيه الصخور التي تعيق فيه مرور السفن . وكان مجلس الاعمار قد بحث في ازالتها لتسهيل  عمليات النقل السريع  !

وأخيرا : متى يهتم  أهل العراق بنهريهما العظيمين والمنحنى؟  

لأنهم لم يهتموا بنهريهما ، فقد أصابهما الجفاف  ..  أتمنى على العراقيين  جميعاً  اهتمامهم بدجلة والفرات وكل الانهر التي تغذي دجلة الذي يعدّ العمود الفقري لبلاد كان لزاماً على أهلها  ومسؤوليها ابان القرن العشرين  مواصلة  ما فعله كلّ الأولين في بناء السدود واحياء البوادي ومد البحيرات في ثورة اروائية وزراعية عظمى بدل انشغالاتهم السياسية ونضالاتهم التافهة  وانقلاباتهم الصبيانية القاتلة .. انّ الأجيال الجديدة مطالبة  بأن تحافظ على حقوقها المائية في دجلة والفرات ، وكري احواضهما وتنظيفهما  وكلّ الانهر الاخرى  من أجل مستقبلها في عالم لا يرحم أبدا .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *