Search
Close this search box.

تأملات في لحظة انتخابية عراقية .. صوتي بين العورة والواجب

تأملات في لحظة انتخابية عراقية .. صوتي بين العورة والواجب
كلما اقتربت الانتخابات البرلمانية في العراق، وجدتني أقف أمام سؤال بسيط في ظاهره، عاصف في جوهره، هل أشارك...

كلما اقتربت الانتخابات البرلمانية في العراق، وجدتني أقف أمام سؤال بسيط في ظاهره، عاصف في جوهره، هل أشارك؟ هل أذهب وأمنح صوتي مرة أخرى، أم ألوذ بالصمت احتجاجًا؟

ليس هذا سؤالًا عن مرشح أو قائمة أو تحالف. إنه سؤال عن المعنى. عن صوتي، هل ما زال له معنى؟ وهل لا يزال يملك القدرة على أن يحدث فرقًا، ولو طفيفًا، في زمن يبدو فيه كل شيء محكومًا بالمراوحة أو التكرار الكئيب؟

لقد منحت صوتي من قبل. كأي مواطن أراد أن يكون جزءًا من الحل، لا عبئًا إضافيًا على الخراب. لكن النتيجة في كل مرة كانت أن يعود الوجوه نفسها، تعيد إنتاج المشهد نفسه،عجز، فساد، تواطؤ، وتسويات فوقية لا علاقة لها بهمومي ولا بأحلام من يشبهوني. وكأن صوتي لم يكن سوى نقطة في بحر مظلم، تلتهم بلا أثر.

فهل أعود اليوم لأقدمه من جديد على طبق من خيبة؟ هل أكون شريكا في إعادة تدوير من خذلوني باسم الديمقراطية؟ أم أن صوتي هذه المرة يجب أن يتحول إلى صرخة احتجاج، إلى صمت عميق يعبر عن رفضي للعبة كلها؟

لكنني حين أستسلم لهذه الحيرة، يتسلل سؤال آخر، أكثر خطورة، هل أصبح صوتي (عورة)؟ هل تحول حقي إلى عبء؟ هل باتت مشاركتي نوعًا من التواطؤ؟ أم أن مقاطعتي هي الأخرى تواطؤ من نوع مختلف، لأنها تترك الساحة فارغة لمن لا يستحقون؟

يبدو لي أحيانًا أن الديمقراطية التي نمارسها لا تشبه ما حلمنا به يوم رفعنا شعارات التغيير. بل تشبه شكلًا من العبودية الطوعية، حيث نستمر في إعادة إنتاج منظومة فاشلة تحت ضغط الأمل الكاذب، أو الخوف من الأسوأ، أو اليأس من البدائل.

هل نعيش حقًا في نظام ديمقراطي؟ أم أننا نمارس طقسًا شكليًا لا يغير شيئًا؟ صندوق الاقتراع، في الأصل، هو أداة لإعادة توزيع السلطة وفقًا لإرادة الناس. لكنه في حالتنا يتحول إلى ختم على اتفاقات مسبقة، وإلى ديكور لمنظومة قررت مسبقًا من يحكم ومن يعارض، ومن يتصدر الواجهة ومن يقبع في الظل.

ومع ذلك، أعود لأتأمل في عمق السؤال،هل صوتي لي فقط؟ أم أنه صوت وطن؟ هل يمكنني أن أعتبره شأنًا شخصيًا أمارس فيه قناعاتي وحدي، أم أنه مسؤولية جماعية تتجاوز خيبتي الخاصة؟

أدرك أن المساهمة في تغيير حقيقي ليست مهمة الصوت الواحد، لكنها أيضًا لا يمكن أن تتم بدون تراكم تلك الأصوات الفردية التي تقرر أن ترفض العزلة، وأن تعبر، حتى لو في مساحة ضيقة، عن إرادتها.

ربما لا أملك أن أغير كل شيء. لكني أملك أن لا أكون صامتًا. أن لا أكون متفرجًا يلعن المسرح والممثلين دون أن يتحرك. ربما لا أجد بين المرشحين من يمثلني تمامًا، لكن ربما أجد من هو أقرب إلى ما أريده، إلى ما يستحقه هذا الوطن المتعب.

أن تصوت ليس بالضرورة أن تمنح الشرعية لمن لا يستحق، بل قد يكون أحيانًا محاولة لتقليل الخسائر، لحماية ما يمكن حمايته، أو حتى لتسجيل موقف، أنا هنا، ما زلت أؤمن بإمكانية التغيير، وإن كانت ضئيلة.

لكن المقاطعة أيضًا ليست خيانة للوطن، كما يروج بعض الساسة حين يواجهون رفض الناخبين. المقاطعة، حين تكون موقفًا واعيًا، ليست تهربًا من المسؤولية بل تعبيرًا صارخًا عنها. إنها رفض للمشاركة في مسرحية لم يعد المشهد فيها قابلًا للتصديق، ولا الخاتمة جديرة بالرهان. حين تصبح الانتخابات مجرد إعادة إنتاج لطبقة سياسية مغلقة، لا تسمح بتجدد الوجوه ولا بتداول فعلي للسلطة، فإن مقاطعتها قد تكون الصرخة الأخيرة التي يطلقها المواطن دفاعًا عن كرامته.

المقاطعة هنا ليست سلبية، بل فعل مقاومة مدنية، يشبه العصيان الناعم، رفضًا لتطبيع الفساد، وانعدام الكفاءة، واحتقار إرادة الناس. وربما، إذا ما تراكمت هذه المواقف الفردية إلى كتلة حرجة، يمكن أن تخلق تصدعًا في البنية الجامدة، وتفرض على الطبقة السياسية أن تراجع نفسها.

لكن الخطر يكمن حين تتحول المقاطعة إلى لا مبالاة. حين تصبح عزوفًا يائسًا بلا موقف، أو انسحابًا من الشأن العام بدافع الاستسلام. هنا تفقد المقاطعة معناها، وتصبح خدمة مجانية لمن لا يريدون التغيير أصلًا، أولئك الذين لا ينتظرون سوى أن ينفض الناس عن الشأن العام، ليزدادوا هيمنة على ما تبقى من القرار.

لهذا، إن اخترت المقاطعة، فليكن ذلك عن وعي ويقظة واحتجاج، لا عن ضجر أو خيبة عابرة. وليكن صوتك، حتى في صمتك، أداة مقاومة لا استقالة.

لكن لا أخفيكم سراً لا زالت الحيرة تفتك بي ، لا أملك جوابًا حاسمًا. ولا أزعم لنفسي يقينًا أخلاقيًا مطلقًا.

لكنني أؤمن أن الحيرة التي أعيشها ليست ضعفًا، بل علامة على أنني ما زلت أبحث عن الحق. ما زلت أؤمن أن العراق يستحق الأفضل، وأن صوتي، مهما بدا ضئيلاً، ليس عورة، بل نداء لوطن ربما يسمع ذات يوم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *