في مدينة الحلة الفيحاء، وفي عام 1222هـ، وُلد أحد أعلام الفكر والأدب والدين في العراق، السيد مهدي بن داود بن سليمان الكبير، المعروف بـ”أبي داود”. وقد شبّ في كنف أسرة علمية عريقة تمتد جذورها في التقى والريادة الفكرية، فنشأ نشأةً علميةً خالصة، يتردد صدى السجايا العلوية في كيانه، وينبض قلبه بحب العلم منذ نعومة أظفاره.
بدأ خطواته الأولى في ميدان العلم والأدب على يد أخيه السيد سليمان الصغير (توفي 1247هـ)، حيث تشرّب منه أصول العربية ومتونها، حتى استقام لسانه وتهذبت قريحته، ثم انطلق بعد ذلك يشق طريقه في عالم الفكر والمعرفة بذهن متقد وقريحة سيالة. لم يكن في الحلة من يضاهيه في سعة الاطلاع، فقد أحاط بأشعار العرب وتواريخهم وأيامهم، وتميز بحافظة نادرة وبصيرة نافذة في أسرار اللغة العربية، حتى عُدَّ نسيج وحده، وعديم النظير في طبقته.
ما لبث أن أصبح من شيوخ صناعة الأدب في الحلة، بل ومن صدور رجالها المعدودين، حاملاً على عاتقه عبء الزعامة الأدبية والدينية، تلك التي اضطلعت بها أسرته من قبله، فكان امتدادًا مشرقًا لمجد علمي متوارث.
درس الفقه أول أمره على يد العلامة الجليل الشيخ حسن صاحب أنوار الفقاهة، ابن الشيخ جعفر كاشف الغطاء، حين كان هذا الأخير مقيماً في الحلة، ثم ما لبث أن هاجر إلى النجف الأشرف، حيث حضر على شيخ الفقهاء وزعيم حوزتها، الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر. وقد رثى أستاذيه الجليلين بقصيدتين رائعتين محفوظتين في ديوانه المخطوط، تشهدان على عميق وفائه وصدق تأثره([1]).
ولم يكن أبو داود متفرغًا لنفسه وحسب، بل كان من أبرز من آزَرَ العلامة الكبير السيد مهدي القزويني في رسالته الإصلاحية، حين اتخذ هذا الأخير من الحلة مقرًا له في أواسط القرن الثالث عشر. وقد أخلص له التأييد وساهم معه في نشر القيم الإسلامية الأصيلة، فكان من المؤمنين بمهمة القزويني، ومن الحريصين على نهضته الفكرية([2]).
وكان بيته، بل مسجده المعروف بـ”مسجد أبوحواض” في الحلة، قبلةً لأدباء البلدة وطلبة العلم. لم يكن المسجد مكانًا للصلاة وحسب، بل أشبه بمدرسة أدبية تزدهر بالحوار والدرس والتوجيه. كان يصلي فيه خلفه كثير من الصلحاء، ويأوي إليه جمع من طلبته الذين صار لهم بعد حين باعٌ طويل في الأدب، ومنهم: الشيخ حسن مصبح، والشيخ حمادي الكواز، والشيخ حسون بن عبد الله، والشيخ علي عوض، والشيخ محمد الملا، والشيخ علي بن قاسم، والشيخ حمادي نوح، الذي كان أبو داود يكنّ له احترامًا خاصًا، ويعبّر عنه في ديوانه بعبارة “سيدنا الأستاذ الأعظم”([3]).
لكن القلب الأوسع من هذا كله كان لابن أخيه، وربيب حجره، السيد حيدر، الذي رباه على يديه وعلّمه وهذّبه، فكان له أبًا ومربيًا. وخلّد هذه العاطفة النبيلة في قصيدة رثى بها حيدر، قال في مطلعها:
أظُبا الردى انصلِتي وهاكِ وريدي ذهبَ الزمانُ بعُدّتي وعــــــــــــديدي([4])
أما آثاره، فهي كثيرة، وإن ضاع بعضها في غبار السنين، فإن صداها لم يزل قائمًا. من أبرزها كتاب مصباح الأدب الزاهر، الذي ذكره ابن أخيه السيد حيدر في كتابه العقد المفصل. ويقال إنه كان من أنفس كتبه، غير أن الأصل قد فُقد ولم يعثر عليه([5]). كما صنّف كتابًا ضخمًا في مختارات الشعر العربي، على طريقة أبي تمام في ديوان الحماسة، جمع فيه من عيون شعر العرب ما يفوق الوصف. وقد أفاد منه دارسو الأدب في الحلة كثيرًا([6]).
وله كذلك كتاب في أنواع البديع، وآخر في تراجم الشعراء ونوادرهم، يُظن أنه لخص فيه ما ورد في كتب مثل اليتيمة ووفيات الأعيان. وقد رأى أحد الأدباء قطعة من هذا الكتاب بخط الخطيب القاسم بن محمد الملا، منقولة عن الأصل([7]).
أما ديوانه الشعري، فلم يُجمع في حياته، بل ظلّ متفرقًا في أوراق مختلفة، أكثرها بخط ابن أخيه حيدر، حتى جمعه حفيده السيد عبد المطلب بن داود، وكلف الشيخ مهدي اليعقوبي بنسخه، فجُعل في جزأين: أولهما في 195 صفحة، وهو مكرس لمديح ورثاء أعلام عصره في النجف والحلة من آل بحر العلوم، وكاشف الغطاء، والقزويني، وآل كبة في بغداد. أما الجزء الثاني، الذي يقع في 128 صفحة، فهو في مديح ورثاء أجداده الطاهرين (عليهم السلام)، وقد نظمه في أيام شيخوخته، بعدما آلى على نفسه ألا يقول شعرًا في غيرهم. بل لقد أبدى ندمًا صادقًا في مقطوعة مؤثرة، تأسف فيها على ما قاله من مدائح لمن لا يبلغون منزلة آل الرسول في الشرف والسؤدد([8]).
إن سيرة أبي داود الحلي، بأدبه وورعه وزعامته، هي صفحة مشرقة من تاريخ الحلة، بل من تاريخ العراق العلمي والأدبي. رجل جمع بين التقى والتبحر، بين جمال العبارة وسمو الفكرة، وترك إرثًا يستحق أن يُنفض عنه غبار النسيان.
وقال في كلمات نثرية صدّر فيها تخميسه لقصيدة عمه الدالية([9]) : ولا غرو ان حذوتُ مثله وشابهت أقوالي أقواله فان من حياضه مشربي ومن أدبه كان أدبي فترانا حريين بقول المؤمل أبن أميل الكوفي :
وجدتُ وراءَه تجــــــــــــري حثيثاً وما بِكَ حيثُ تجري من فتــــــورِ
وإن بلغَ الصغيرُ مدى كبيـــــــرٍ فقدْ خُلِقَ الصغيرُ مِن الكبيـــــــــرِ
فمن ثمة تجد السيد حيدر قد أخذ كثيراً من معاني عمه واودعها في قوالب من الألفاظ تفوّق فيها على عمه في قوة التراكيب وجمال الأساليب …
والى ما قاله في أهل البيت (عليهم السلام) أشار ابن أخيه في ال ج1من العقد المفصل حيث قال عن عمه المذكور ما لفظه : أوصى اليّ في بعض قصائد كان نظمها في مدح جده وعترته أن أجعلها معه في كفنه أهـ . وألمع الى ذلك في مرثيته لعمه بقوله :
وأرى القريض وان ملكتُ زمامه وجريت في أمــــــــــــد اليه بعيــــــــدِ
لم ترضَ منه غير ما ألزمتـــــــه من مدحِ جدك طائراً في الجيــدِ
وفيه تلميح الى قوله تعالى { وكل انسان ألزمناه طائره في عنقه} (الإسراء/13 )
وقد أثبت بعض مراثيه الحسينية سيدنا العلامة الأمين في (الدر النضيد).
نماذج من شعره :
ذكر له صاحب البابليات نماذج كثيرة من الشعر نقل بعضها صاحب تاريخ الحلة فلا حاجة لتكرار ذكرها ، وقال صاحب أعيان الشيعة انه صنّف :
- مصباح الأدب الزاهر وهو كتاب في الأدب في فوائد تأريخية وأحوال بعض العلماء المعاصرين .
- مختارات شعرية .
- ديوان شعره ، ولما توفي أوصى ابن أخيه السيد حيدر ان يدفن معه في كفنه مدائحه ومراثيه في النبي وأهل بيته عليه وعليهم الصلاة و السلام . وذكر له نماذج كثيرة من الشعر منعنا الاختصار عن نقلها هنا .([10])
قال من قصيدة في مدح المرحوم الحاج محمد صالح كبة :
نسيمُ الصبا استنشقتُ منك شذا الندِّ فهلْ سرتَ مجتازاً على دمنتَي هنــــدِ
فذكرنني نجداً وما كنتُ ناسيـــــــــــــــــــا ليالٍ سرقناها من الدهر في نجـــــــــــدِ
ليالٍ قصيراتٍ ويا ليتَ عمرَهـــــــــــــــــــــا يمدّ بعمري فهو غايةُ ما عنــــــــــــــدي
بها طلعت شمسُ النــهارِ فلفّهـــــــا ظلامان من ليلٍ ومن فاحــمٍ جعْـــــــــــدِ
قد اختلستْ مـــــنها عيونـــي نظــــــرةً أرتني لهيبَ النارِ فـــــــي جنّــــــةِ الخــدِ
وفي وجنتيها حــــمرةٌ شكّ ناظــــــــري أمن دمِ قلبي لونُـــــها أم مِن الــــــــــوَرْدِ
وفي نحرهــــــا عِقْدٌ توهَّـــمْت ثغرَهــــا لآلؤه نُظّـــــمْنَ من ذلك العقــــــــــــــــــــــــــدِ
وما كنت أدري ما المـــدامُ وإنمــــــــا عرفتُ مذاقَ الراحِ من ريقِها الشهــــدِ
وله :
اقطعْ هُدِيتَ علائقَ النفـــــــــــــــسِ أتعيشُ في أملٍ الى الرُّمْــــــــــــــــــسِ
تمسي وتأملُ في الصباحِ ترى خيراً فتُصْبِحُ مِثلما تُمْســــــــــــــــــــــي
ومن أبلغ مراثيه بائيته المشهورة التي يقول فيها :
بنو العواتكِ قاستْ أعظمَ النُّـــــــــوَبِ بكربلا مِن بني حمّالَةَ الحطـــــــــــبِ
(تبتْ يدا) آل سفيانٍ لقد كُسِـــــــرَتْ قَسْراً سفينةُ نوحٍ في شبا القُضَــبِ
وعترةُ المصطفى الثقلُ الذي قَـَـَرنَ النبيُّ فيه كتاباً أعظمُ الكتـــــــــــــــبِ
فقالَ ما إنْ تمسَّكتم بنورِهِمـــــــــــــا فإنّكُم لن تضلّوا في دُجى الرِّيَـــبِ
وفاته :
أجاب المترجم (ره) داعي ربه في الـ(4)من محرم الحرام أول سنة 1289ه في الحلة ونقل الى النجف الأشرف كما أرّخ ذلك تلميذه الشيخ محمد الملا في آخر مرثيته له بقوله :
وحين مضى جاء تاريخه مضى عجلا لجنان النعيــــــــــــــم
والى وفاته في المحرم يشير ابن أخيه السيد حيدر في مرثيته له …
ورثاه عامة شعراء الحلة الذين شهدوا يومه بعدة قصائد أشهرها قصيدة الشاعر المجيد المتوفى بعده بعام واحد الشيخ صالح الكواز حيث يقول :
تعاليتَ قدْراً أن تكونَ لكَ الفِدا نفوسَ الورى طُرّاً مَسُوداً وسيِّدا
[1] – ديوانه المخطوط – القسم الفقهي والرثائي لأستاذيه صاحب “أنوار الفقاهة” وصاحب “الجواهر”.
[2] – العقد المفصل – السيد حيدر بن المهدي، في حديثه عن تعاون عمه مع السيد مهدي القزويني
[3] ديوانه المخطوط، إشاراته المتكررة لتلميذه الشيخ حمادي نوح بلقب “الأستاذ الأعظم
[4] مطلع القصيدة التي رثى بها ابن أخيه السيد حيدر
[5] العقد المفصل – ذكر كتاب “مصباح الأدب الزاهر
[6] مخطوط الحماسة – جزآن ضخمان يروى أن المؤلف جمعهما على غرار أبي تمام
[7] قطعة بخط القاسم بن محمد الملا من كتابه في تراجم الشعراء
[8] ديوانه المخطوط – القسم الثاني في مدح آل البيت وندمه على ما نظمه في غيرهم
[9] ) العقد المفصل : 269