Search
Close this search box.

ميرزا صالح القزويني ضوءٌ خافت من مشكاة الفضل

ميرزا صالح القزويني ضوءٌ خافت من مشكاة الفضل
وتجسدت سلالة العلم في شاب وضيء الطلعة، مهيب السمت، هو السيد ميرزا صالح القزويني، ثاني أنجال العلامة السيد مهدي القزويني، الذي خطّ في حوزة...

في الربع الأخير من القرن الثالث عشر الهجري، حيث كانت الحلة تمور بحركة أدبية خصبة، وتتضوع من منابر النجف أنفاس الاجتهاد، ولد للفضل ميراثه، وتجسدت سلالة العلم في شاب وضيء الطلعة، مهيب السمت، هو السيد ميرزا صالح القزويني، ثاني أنجال العلامة السيد مهدي القزويني، الذي خطّ في حوزة الحلة ثم النجف سيرة عزّ نظيرها في الجمع بين العلم والأدب والورع. كان مولده في الحلة سنة 1257هـ، وتوفي في النجف الأشرف سنة 1304هـ، لم يجاوز الثامنة والأربعين، غير أن أثره تجاوز عمره، واستحال إلى نهر من الذاكرة العلمية والأدبية.

وصفه الشيخ السماوي في الطليعة وصف من يعرف مقدار الرجال، فقال: “كان عالماً مجتهداً، سحابة كرم ونوال، وبحر فضل وأفضال، شاعراً ناثراً، له مع أدباء عصره مطارحات…”.

نشأ الميرزا صالح في حضن علمي خصب، فتلقى علوم العربية على يد الشيخ حسن الفلوجي في الحلة، ثم ما لبث أن ارتحل إلى النجف الأشرف، مهوى أفئدة طلاب الفضيلة، فكان أول أساتذته الكبار الشيخ مرتضى الأنصاري، زعيم الطائفة وعماد الاجتهاد، ثم درس على خاله الجليل الشيخ مهدي آل كاشف الغطاء، وكان لوالده، السيد مهدي، أثر بالغ في تكوينه، إذ تلقى عنه معظم دروسه الأخيرة، ونال منه إجازة الاجتهاد، ثم زكّاه العالم الرباني الحاج ملا علي الخليلي (ت 1297هـ) بإجازة أخرى.

لم يكن ميرزا صالح فقيهًا حسب، بل كان شاعرًا وأديبًا مترعًا بالذوق، تتناوب على قلمه النثرات الرقيقة والمقطعات الشعرية، فكان من أعمدة الحركة الأدبية في الحلة والنجف، ونبضًا حيًا في الوسط الثقافي في زمن كانت الكلمة فيه مرآة الوجدان. له مؤلف وحيد وصلنا بعنوان “مقتل أمير المؤمنين”، ألفه خصيصًا ليُقرأ في المأتم الذي يقام في داره ليلة 21 من رمضان، إذ ينعى فيه الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) بأسلوب يقطر وفاءً وحزنًا3.

وقد عُرف بعلاقة متوترة في أواخر حياته مع الشاعر السيد حيدر الحلي، أدّت إلى سجالات أدبية طريفة ما بين المعاتبات والمناظرات نظمًا ونثرًا، وهي سجالات تدلّ على نباهة الاثنين واتقاد موهبتهما، وإن حملت غلالة من خلاف.

 

في البابليات ورد ذكره تحت عنوان “الميرزا صالح الحلي”، وعدّه صاحب المآثر والآثار من مشاهير مجتهدي العراق في عصر ناصر الدين شاه، مثنيًا عليه بما هو أهله4. أما شيخ المحدّثين الشيخ النوري، فقد نقل عنه في جنة المأوى بقوله:

“حدثني السيد السند، والحبر المعتمد، زبدة العلماء الأعلام، وعمدة الفقهاء العظام، حاوي فنون الفضل والأدب، وحائز معالي الحسب والنسب، الميرزا صالح القزويني دام علاه…”5، وهي شهادة تُحفر في صخر التاريخ، لا تُقال إلا لعالم ربانيّ وأديبٍ متمكّن.

وذكره الشيخ علي آل كاشف الغطاء في كتاب الحصون، بأنه كان مجازًا من والده ومن غيره من أعلام زمانه، وتولى الزعامة الدينية بعد رحيل أبيه وأخيه، وتمتع بعلو الهمة، وكرم النفس، وسكن قضاء طويريج لبعض الوقت، فقام على تعمير ممتلكات والده وبساتينه، وما تزال آثار عمارته قائمة بيد أولاده حتى اليوم6.

وقد اختصر السيد مهدي القزويني مكانة ولديه بجملة عميقة الدلالة، حين سئل عن رأيه فيهما، فقال:

“جعفر أعلم، وصالح أفقه”، وهي مفاضلة بين علمٍ عقلي ومدرسي، وبين فقهٍ متين وذوقيٍّ، تثبت بجلاء ملامح شخصيته العلمية المتكاملة7.

وفي مناسبة حصوله على الإجازة من أستاذه الحاج ملا علي الخليلي، أنشد الأديب الشيخ علي عوض الحلّي أبياتًا يهنّئ فيها المترجم، مشيدًا بفضله ومكانته، لكنها مما لم يصلنا كاملًا، سوى ذكر الخبر في المصادر.

لقد غيّبه السرطان في ريعان عطائه، مرضٌ عضال أعيى الأطباء من أهليين وعسكريين، لكنّ موته لم يغيّب ذكراه، فهو حيّ في كتب التراجم، وفي أدب عصره، وفي نسل من أبقاه من أهل الفضيلة والعلم.

وهكذا، مضى ميرزا صالح القزويني، رجل جمع بين جبّتي العلم والشعر، ومضى كما يمضي كل من خطّ في حياته أثرًا لا تمحوه السنون([1]).

نماذج من شعره :

وقال عن شعره في البابليات: ” وكان ..في شعره خصب القريحة طويل النفس رصين اللغة والأسلوب ولولا اشتغاله في العلوم الدينية لكان أشعر الأسرة القزوينية ، وله في أخيه السيد ميرزا جعفر عدة مراث كلها نفثات وحسرات وشجون وعبرات ، فمنها ما كتبه من الحلّة الى والدته – كريمة المحقق الشيخ علي كاشف الغطاء – مجيباً لها عن كتاب جاءه منها تعزيه فيه وتسليه عن أخيه المذكور :

وآمنة من روعة الدهر صكّهــــــــا      بجائحة لم تبق للصبر موضعا

طوت نوب الأيام معقد نحـــــــــرها      وكان حمى للمستجير ومفزعـــا

وأصبح منتاب الحوادث بغتـــــــــة      وقد كان أحمى من ثبير وأمنعا

وأرسل الى أخيه السيد محمد أبي المعز من الحلّة الى النجف قصيدة يشكو بها وحشته في الحلّة بعد وفاة أخيه السيد ميرزا جعفر منها :

بات ليلي بالأبرقين طويـــــــــلا      أتمنى جنح الدجى أن يطـــــــــــولا

أرقب النجم ساهراً وأراعيــــــه       طلــــــــوعاً طوراً وطورا أفــــــــــــــولا

لا أذوق الرقاد إلاّ غــــــــــــــرارا       أو كآسٍ يقيـــس نبضاً عليـــــلا([2])

ومنها :

كان عهدي بها غيابة أســـــدٍ     تخذتها أســـــد العرينة غيــــــــــــلا

حرماً آمنــــــاً وكهـــفاً منيعــــاً      وملاذ تؤوي اليها الدخيــــــــــلا([3])

يتهادى بها الذلــيلُ عزيــــــزاً      كيف أمسى بهـا العزيز ذليــــــــلا

أين تلك القدورتهدرللضـيفا      ن كالشــــــــول بكـــــرةً وأصيــــــــــــلا

أين تلك النيران تــوقد للمـــا      رين ليلاً فلا تـــــــؤمّ دليــــــــــــــــــلا

أين ذاك الجناب عهدي بـــه     مختلف الوفد راحـــــلاً ونزيــــلا([4])

وقال مقرضاً كتاب (الدمعة الساكبة) في سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) وآله (عليهم السلام) تأليف الشيخ باقر بن عبد الكريم البهبهاني النجفي الذي فرغ من تأليفه في أخريات القرن الماضي [ يريد القرن التاسع عشر] :

لله درك جامعــــــــــاً لمناقـــــــــــــــب     كشفت لليل الجهل ثوب ظلامِ

لم تولها جمعا لحصر عدادها      أنى وقد بعدت عن الأوهــــــامِ

لكن دعاك لذاك صدق ولائــــها     من عالم الأصلاب والأرحـــــامِ

لم ترض قلبك واللسان شهوده     حتى أقمت شهادة الأقـــــــــلامِ

وله في رثاء جده الحسين (عليه السلام) قصائد لم نجد منها سوى اثنتين الأولى منهما مشهورة ومنشورة في عدة من الكتب المطبوعة وهي :

أيقعد عن خطة المجد لائــــــــــــم      قصير الخطى من أقعدته اللــــــــوائمُ

سأركبها مرهوبة ســـــــــــــــطواتها      تطير خوافيها بها والقـــــــــــــــــــــــــوادمُ

عليّ لربع المجد   وقفة ماجـــد      تناشده منّي السيوف الصـــــــــــــوارمُ

وأمطرمن سحب البوارق هاطلا      من الدم لا ما أمطرته الغمـــــــــــــــائمُ

وأبسم مهما أبرقت بأكامــــــــــــه       ولابرق حزوى إن سرى وهو باســـمُ

وأرتاح إن هبّت به ريحُ زعزع       من الموت لا ما روّحته النســـــــــــائمُ

ومنها :

سل الطفّ عن أهلي وإن كنت عالماً    فكم سائل عن أمره وهو عالــمُ

غداة ابن حرب سامها الضيم فارتقت    بها للمعالي الغرّ أيدي عواصمُ

وقاد لها الجيش المهام ضــــــــــــــــلالة    متى روّعت أُسدالعرين البهائمُ

فشمر للحرب العوان شـــــــــــــــــــــــمردلٌ     نديماه يوم الروع رمح وصارمُ

رماها بآساد الكريهــة فتيــــــــــــــــــــــــــة     نماها الى المجد المؤثل هاشمُ

مساعير حرب فــــــوق كل مضمّـــــــــــر    مديد عنان لم تخنـــــه الشكائمُ

مناجيد لا مـــــستدع الضيم خائــــــــب     لديهم ولا مسترفد الرفد نــــــادمُ

وزارت عراص الغاضـــــــــــرية ضحوة     (وموج المنايا حولها متـــــلاطمُ)

وهي قصيدة طويلة([5])

وكتب اليه السيد حيدر بن السيد سليمان معاتباً بقصيدة مطلعها :

حتى م تطوي الودّ بالهجرانِ      والى م أبسط بالعتاب لســـــاني

فأجابه السيد المترجم على الوزن والروي بقصيدة منها :

أطلقت بالعتب الممض لسانـــــي    إن ترم بالإعـــــياء فـضل بياني

يا من له أخلصت صفو مودّتي     ما شابها كـــــدر من الهجــــرانِ

وعقدت حبل ولائـــــه بمحبتــــــــــي     حتى اغتــديت به رضيع لبانِ

وأراك قد نبّهــــت مـــــقلة ساهـــــــــر    بالعتب بل متـــــــناوم يقظـــــــانِ

مُغضٍ على مضض القذى وتسو     مه وهوالبرئ بهاجناية جانـي

… الخ القصيدة ([6])

[1] – نقلا عن البابليات:2/138-152 بتصرف.

([2] ) في المصدر : يحبس ولا يستقيم معها الوزن .

([3] ) في المصدر : ملان ، ولا معنى لها والصحيح ما أثبتناه .

([4] ) تاريخ الحلة : 2/243-245

([5] ) انظر البابليات:2/148-149

([6] ) البابليات:2/152

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *