من أجل ، استجلاء معنى عنوان البحث ، والتفاعل معه ، والالمام به ، علينا اولا معرفة مفهوم ” التعددية الثقافية ” ، الذي سيشكل ركناً مهماً جداً ، بل سيكون مضمون البحث قائما ومعتمدا عليه ، مما يعني سوف تنشأ علاقة جدلية نوعية فكرية و واقعية بين التعددية الثقافية والسرد وبالذات السرد الروائي ، استنادا على المقولة السائدة ما من شيء في العالم إلا وهو خاضع للجدل والتأويل .
فالتعددية الثقافية ( Pluriculturalism):هي موقف تجاه الذات والآخرين باعتبارهم أفرادًا يتمتعون بالثراء والتعقيد، ويتصرفون ويتفاعلون من منظور التعريفات المتعددة. وفي هذه الحالة تكون الهوية أو الهويات نتاج الخبرات في الثقافات المختلفة. ومن ثم، تشكل التعريفات المتعددة شخصية فريدة بدلاً من هوية واحدة ثابتة أو ما يزيد عن هذه الهوية. وتستند هذه الشخصية على الهوية المتعددة، التي يمتلك فيها الأفراد هويات عديدة تنتمي إلى مجموعات متعددة ذات درجات مختلفة من التعريف. وقد ظهر مصطلح أهلية التعددية الثقافية نتيجة فكرة التعددية اللغوية. وثمة فارق بين التعددية الثقافية والتعدد الثقافي.
ويُعرَّفُ التعدد الثقافي Multiculturalism))على أنّه عملية تعايش عدد مختلف من الثقافات مع بعضها البعض في المجتمع ذاته، بطريقة تجعل كلّ طرفٍ يحترم ثقافة الطرف الآخر .
وهنا من الضروري جدا التمييز بين مصطلحي التنوع الثقافي و التعدد الثقافي على أساس أنّ فكرة التنوع الثقافي : تستند إلى الاعتراف بالفروق الفردية واحترامها, ويتضمن التنوع إدراك الاختلافات الفردية من حيث المهارات والقدرات النفسية والجسدية , والوضع ال ولا تشتمل التعددية الثقافية على مطالب الهوية والثقافة فحسب كما يشير بعض النقاد التعددية الثقافية ، بل تُعد أيضا مسالة تتعلق بالمصالح الاقتصادية والسلطة السياسية ، فتشمل السلبيات والعيوب الاقتصادية التي يعاني منها الافراد نتيجة لهوياتهم الجماعية المهمشة .اقتصادي والاجتماعي. أما التعددية الثقافية : فهي تركيب تحتفظ فيه مكوناته على تماسها مع حوار متبادل يحفظ كل منها خصوصيته من دون إذابة أو تماه يفقد فيه الطرف الآخر حضوره المكاني والزماني الدال عليه .
ولا تشتمل التعددية الثقافية على مطالب الهوية والثقافة فحسب كما يشير بعض النقاد التعددية الثقافية ، بل تُعد أيضا مسالة تتعلق بالمصالح الاقتصادية والسلطة السياسية ، فتشمل السلبيات والعيوب الاقتصادية التي يعاني منها الافراد نتيجة لهوياتهم الجماعية المهمشة .
وبالنسبة لي ، اعتبر النقد الثقافي موازيا للتعددية الثقافية ، بل ان النقد الثقافي يشترك في الكثير من الاشتغالات مع التعددية الثقافية ، مما يجعل البعض يظن انهما يمتلكان رؤية واحدة ذات مسار واحد ، لكن بالحقيقة لا ، لكل منهما رؤيته ومساراته واتجاهاته ، وهذا يجب ان نضعه في بالنا . أن النقد الثقافي اقرب الى النظرية ، بينما التعددية الثقافية اقرب الى الواقعية ، لذا لك منهما توجهاته .
وقد تتأثر الثقافات من الخارج عن طريق الاحتكاك بين المجتمعات، والتي قد تنتج أيضًا، أو تمنع -التحولات الاجتماعية والتغيرات في الممارسات الثقافية. وقد يكون للحرب أو التنافس على الموارد بالغ الأثر قي التطور التكنولوجي أو التغييرات الاجتماعية. بالإضافة إلى ذلك، قد يتم نقل الأفكار الثقافية من مجتمع إلى آخر، عن طريق التعايش أو التبادل الثقافى. فعن طريق التعايش، قد يتم نقل أي شيء (ليس بالضرورة ذكر قيمته) من ثقافة إلى أخرى. على سبيل المثال، قد يبدو اكلة ” البرما ” مدهشا عند تقديمها في أمريكا على الرغم من وجودها العادي في العراق وبالذات في الشمال في مدينة الموصل . حيث يشير «التعايش النشط» أو (تبادل الأفكار) إلى عنصر واحد من ثقافة معينة والذي قد يقودنا إلى اختراع أو شهرة في ثقافة أخرى. وتقدم نظرية تبادل الابتكارات نموذجا يعتمد على البحوث النظرية والذي من شأنه مساعدتنا في معرفة لماذا ومتى يمكن للأفراد والثقافات اعتماد أفكار، وممارسات، ومنتجات جديدة.
وإن اشهر أنواع روايات التعددية الثقافية : روايات تتناول الاختلاف الديني ، روايات تشتغل على الغربة وتمظهراتها ، وروايات تصور المنفى ، روايات تبحث في القومية ، وفي الهجرة ، هنا ،تتحول الجغرافيات الى فضاء روائي منتج مستوعب للعلاقة مع الآخر والهويات .
فمنها ينتمي إلى فهم أشمل يتمثل بـ أدب الأقليات “الذي تمتد جذوره إلى عصور مبكرة في الأدب العربي , ويهدف إلى التعبير عن الهوية الثقافية الاجتماعية والدينية، إلّا أنّها ركزت في دلالاتها المعاصرة المتأثرة بدراسات ما بعد الحداثة على نقض خطاب المركزيات الثقافية وهوياتها المهيمنة والخروج من فضاء التهميش والإقصاء والتأكيد على – حق – الأقليات في توكيد صوتها الروائي المتفرد” 3. ويغلب على هذا النوع تقديم ثقافة الأقليات ومجتمعاتهم مع تمثيل المعاناة التي ترافق حياتهم أو الخروج من بلدانهم بما يعكس التشتت والإحساس بالضياع , والبحث في حق الإنسان بالاختلاف والملاحظ على هذه الروايات تركيزها على تعزيز الهوية الوطنية المنتمية إلى المجتمع الأكبر / الوطن .
وهنالك روايات تتناول الازدواجية في المعتقد الديني ، أي الجمع بين ديانتين ، كما في رواية محمد الأحمد ” متاهة اخيرهم “4 ، عندما تكون الشخصية الرئيسة جامعة في حمل الديانتين ، أي ولد يهودياً وعاش مسلماً ، دون أن يدري ذلك ، وانه يحمل اسمين : محمد في الإسلام ومكابيوس في اليهودية .
يبدأ ” محمد ابراهيم ” السارد الضمني في الرواية بالبحث عن الحلقة المفقودة التي اسمائها ” ابن يهوده ” ، وأن فكرة البحث تأتيه بعد مجيء عمه ” حسقيال ” لبيتهم، واستخراجه من الفتحة السرية في غرفة المكتبة الموجودة بين رفوف الكتب ، الشوفار( قرن كبش مبروم على شكل بوق )، ومجموعة من الاختام معها مفتاح باب نحاسي ، ويتجذر الاسم عنده بعد قول ” حسقيال ” له : أن ” يهودا ابن متاثياس ” لقبه ” مكابيوس ” ثم صار هذا الاسم لجميع الأسرة ص 106 . هنا ” محمد ” لم يستطيع استلام الشفرات المرسلة من قبل عمه ولا تفكيك السطور، فقط اصبح يرغب بشدة في أن يعرف من هو ” مكابيوس ” ؟ بعد أن بات يمثل له – أي اصبح يمثل محمد ضد ذاته أو مكابيوس ضد مكابيوس – تحدياً وعناداً ، ونزوة تؤرقه ، رغم أن الإجابة كانت تحت يده ونظره ، فقط لو مد يده في الفتحة السرية الى العمق / التيه لكان عثر على ما يبحث عنه وعرف من هو ” مكابيوس ” ، ولكن , بقى الأسم في الوثائق الدينية اليهودية ” مكابيوس ” ، وفي الوثائق المدنية الرسمية ” محمد ” ، وهذا اللغز / التيه منذ السطور الاولى للرواية كان امامه بشكل تورية ، وقد كشف (= أي اللغز ) نفسه بنفسه ، ولكن لم ينتبه له ولم يستوعبه :
” انك تشبهين ال، ملكات في افلام السينما يا خالة “
” أنا عمتك .. ولست خالتك” !! ص 15 الرواية .
ويكتشف بانه كان يبحث عن نفسه في كل الاوراق التي كتبها على الآلة الكاتبة وهي بلا حبر ، ولكن رغم ذلك يبقى السر الذي قد اطلع عليه غير مسموح له ( أي مكابيوس / محمد ) من قبل ذاته باطلاع الآخرين عليه ، حتى مع الذين يعرفونه .
اما في رواية ” الحفيدة الامريكية لـ انعام كجه جي ، يمثل الصراع الحاد النفسي الذي يمر به الشباب العراقي المسيحي ، عندما يهاجر من العراق كمواطن عراقي ، ولكن حينما يعود له ، يعود كمواطن آخر ، وحامل جنسية أخرى ، يعود كمجند في صفوف الجيش الغازي لبلاده ، وهنا تبرز إشكالية الضياع والتشتت بين الوطن الام “العراق ” وبين الوطن البديل ” أمريكا ” ، وهذا ما نشاهده عندما تعود بطلة الرواية وهي مجندة في الجيش الأمريكي الذي احتل بلدها السابق العراق عام 2003م ، وكل ذلك تصوره الروائية انعام كجه جي في شكل صراع مع الذات ومع الآخر ، فلا هي أمريكية ولا هي عراقية ، ضيعت الخطوتين كما يقول المثل العراقي :
” كنت اريد أن أتباهى امامهم بأني منهم ، سليلة منطقتهم ، أتكلم لغتهم بلهجتهم ، وبان جدي هو العقيد يوسف الساعور الذي في الابعينيات القرن الماضي مساعداً لمدير التجنيد في الموصل ، لكن كل ذلك كان مخالفا للتعليمات لأن كلامي ثرثرة قد تعرضني ورفاقي للخطر ، والتعليمات تريدني خرساء ، لذلك تضايقت للمرة الأولى ، من بزتي العسكرية ، التي تعزلني عن الناس ، كأنني في خندق وهم في آخر . بل أنني بالفعل في في خندق وهم في خندق آخر ، ولي مثل الممثلين البارعين في التقليد القدرة على التقمص وتغيير الشخصيات ، وعلى ان أكون ابنتهم او عدوتهم في آن ، وان يكونوا هم ، في الوقت عينه اهلي وخصومي “.
وفي رواية ” الساخر العظيم ” لـ امجد توفيق ، موضوع الرواية تماما من صلب اشتغالات التعددية الثقافية ، عندما يصبح يزيدي مسلما بطريق الصدفة المحض : سمعها أحد الضباط ، صاح : هل انت آثوري ؟ أجبته بالنفي ، نظر حوله ، فأجابه الحاضرون إنّه ليس آثورياً .. قال : مسلم متعاطف مع المتمردين ، صفعني وطلب مني الابتعاد بدل أن يفجر رأسي. ومنها صرت مسلما أمام الآخرين “.
وبعد ان ينزل لمدينة الموصل ، يبدا بتعلم القراءة والكتابة على يد أمام الجامع ،ويتزوج ويخلف أولاد اثنين ، ولكن الذي يفضحه هو مخطوطه الذي تركه في صندوق ليعثر عليه بعد سنوات حفيده سعد الذي يدير مؤسسة إعلامية كبيرة ، ولتكون المفأجاة ؟
وأخيرا، هنالك في هذا الباب الكثير من الروايات التي تشتغل على هذه الثيمة ، مثل رواية ” عذراء سنجار ” لوارد بدر السالم ، ورواية ” طشاري ” انعام كجه جي ، ورواية ” شاي العروس ” ميسلون هادي ، والكثير من الروايات التي تتناول ثيمات التعددية الثقافية .
1-ويكيبيديا الموسوعة الحرة .
2-د وحيدة صاحب حسن – رواية التعدد الثقافي دراسة في المفهوم وتطبيقاته . جامعة القادسية / كلية التربية ، قسم اللغة العربية .
Wahidah.sahib@qu.edu.iq
3- جيسي ماتز – تطور الرواية الحديثة ، تقديم وترجمة : لطيفة الدليمي ، دار المدى ، 2016م . ” من المقدمة ” .
4- محمد الأحمد – متاهة اخيرهمْ ” رواية ” . المطبعة المركزية لجامعة ديالى ، 2013م ، العراق .
5- أسامة غانم – تأويلية السرد: المتخيل – التاريخ – المتلقي ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 2020م ، ص 68 -69.
6- انعام كجه جي – الحفيدة الامريكية ” رواية ” – دار الجديد ، بيروت / لبنان ، ط 2 ، 2009م . ص15.
7- امجد توفيق – الساخر العظيم ” رواية ” – دار فضاءات للنشر والتوزيع ، عمان /الأردن ، 2017م ، ص 46.