Search
Close this search box.

ما بعد الحرب على غزّة: أو الطّريق إلى التّحرّر الوطنيّ والاجتماعيّ

ما بعد الحرب على غزّة: أو الطّريق إلى التّحرّر الوطنيّ والاجتماعيّ
هكذا أدركت بعض الشّعوب الأفريقيّة والأمريكيّة اللّاتينيّة أنّ خيارها الوحيد والأوحد هو التّحرّر من الهيمنة والتّعويل على ذواتها وبناء اقتصاديّاتها المستقلّة....

كشفت الحرب على قطاع غزّة الكثير للشّعوب العربيّة: منه زيف شعارات الدّيمقراطيّة والحريّة وحقوق الإنسان. ما يعني أنّ النّموذج الغربيّ والأمريكيّ أو الأطلسيّ عموما لم يعد المثال الذّي يُحتذى به في بناء الدّول والمجتمعات. فهو نموذج يكرّس الاستعمار المباشر وغير المباشر ونهب ثروات الشّعوب، وتشكيل فئات اجتماعيّة في الدّاخل عميلة لهذه الدوائر الرّأسماليّة العالميّة.

وممّا لاشكّ فيه أنّ بعض الشّعوب والأنظمة في أمريكا اللّاتينيّة وأفريقيا باتت على وعي تامّ بأنّ لا مستقبل لها غير التّحرّر من هذا النّموذج الرّأسماليّ المعولم الّذي لا يخدم سوى مصالحه الخاصّة، ويُبقي على الدّول الأخرى تابعة في فلكه تعاني شعوبها من التّجويع والفقر والاستغلال والنّهب والفساد.

كما لا يُخفى على أحد بأنّ العالم في طريقه إلى التّشّكل من جديد من خلال صعود أقطاب دوليّة أخرى ومحاور وتحالفات ضمنيّة ومعلنة ممثّلة أساسا في الصّين وروسيا والهند وجنوب أفريقيا وغيرهم من الدّول. وعلى ذلك فإنّ بناء نموذج تنمويّ اقتصاديّ واجتماعيّ وسياسيّ يُطرح اليوم بإلحاح على الشّعوب والأنظمة الّتي تسعى إلى التّخلّص من قيود الهيمنة والاستعمار في شتّى أشكاله.

وهكذا يجري الحديث اليوم كثيرا عن نظام سيّاسيّ جديد أو ما يسمّى بالطّريق الثّالثة. نموذج لا يستمدّ قاعدته من النّظام الاشتراكيّ في صيغته القديمة، ولا من النّظام الرّأسمالي المتوحّش الّذي هيمن على العالم. إنّه النّموذج الّذي سيحقّق استقلال الشّعوب من حيث تحكّمها في مواردها وثرواتها وسيادتها عليها، والقطع مع التّبعيّة للخارج، ومنها التّبعيّة لصناديق النّهب الماليّ العالميّ. وذلك من خلال تعويل تلك الشّعوب على مقدّراتها الوطنيّة وتحقيق اكتفائها الذّاتيّ، وبناء ديمقراطيّاتها الشّعبيّة الحقيقيّة المستمدّة من المشاركة الشّعبيّة الواسعة في إدارة الشّأن العامّ الوطنيّ انطلاقا من القاعدة وصولا إلى القمّة. وهي الدّيمقراطيّة الاجتماعيّة في جوهرها أو مضمونها الاقتصاديّ والاجتماعيّ، وليست الدّيمقراطيّة اللّيبرالية الشّكليّة الّتي تقوم على هيمنة شرائح برجوازيّة ريعيّة وطفيليّة على ثروات الشّعوب، وليست أيضا تلك الديمقراطيّة الصّوريّة الّتي تختزل غالبا في الانتخابات المدعومة بالمال، وفي الحقّ في الصّراخ لحظة الجوع دون الحصول على رغيف أو في بعض الحريّات الفرديّة المجرّدة من مضمونها الحقيقيّ.

فالمشاركة الشّعبيّة الواسعة هي عمود البناء الدّيمقراطيّ للدّول عبر تكريس المساواة وحقّ الإنسان في العمل والتّنمية والصّحّة والتّعليم والنّقل، وهو ما يعرف بالحقوق الاجتماعيّة العامّة. إضافة إلى الدّور الفعّال في مراقبة إدارة الشّأن العامّ ومكافحة الفساد والاحتكار.

لقد أتاحت الحرب على غزّة فرصة للشّعوب العربيّة كي تدرك أنّ أسباب تخلّفها وفقرها تكمن في خيارات وانخراط أنظمتها في النّظام الرّأسماليّ العالميّ، وتبعيّتها للغرب وأمريكا. وبات أيضا من الضّروريّ أن يدرك الشّعب الفلسطينيّ بأن تحرّره من الاستعمار الصّهيونيّ لا يكون إلّا عبر المقاومة بكلّ أشكالها، وأن لا سبيل إلى ذلك من دون حاضنة عربيّة داعمة، وأنّ الوحدة الوطنيّة الفلسطينيّة هي الخيار الوحيد للتّحرّر على قاعدة برنامج سياسيّ مشترك ولو في حدّه الأدنى. ذلك أنّ العامل الذّاتي الفلسطينيّ سيبقى هو العامل المحدّد لتحرير فلسطين.

إنّ الحرب على غزّة في بشاعتها وعناوينها المتعدّدة من تدمير شامل وتنكيل بالمدنيّين، واستخدام للأسلحة الأكثر فتكا، ومحاولات التّهجير أكّدت أنّ الكيان الصّهيونيّ ليس سوى قاعدة للحلف الأطلسيّ في الشّرق الأوسط، وأن لا أمل إلّا بخروج العرب، أو أغلب العرب على الأقلّ ولو تدريجيّا، من هذا الحلف وفكّ الارتباط بهذا النّموذج اللّيبراليّ البربريّ والأكثر توحّشا في تاريخ الإنسانيّة.

هكذا أدركت بعض الشّعوب الأفريقيّة والأمريكيّة اللّاتينيّة أنّ خيارها الوحيد والأوحد هو التّحرّر من الهيمنة والتّعويل على ذواتها وبناء اقتصاديّاتها المستقلّة. وإنّ المرحلة القادمة ستكون تحت هذا العنوان، أي عنوان التّحرّر الوطنيّ والاجتماعيّ.

إذ لا سبيل كما لا نصيب للإنسان أيّا كانت جنسيّته غير هذا الطّريق الثّالثة لنيل الحريّة والكرامة والحقوق. فمن دون ذلك سيكون الفقر والاستعمار والتّسلّط واستشراء المافيات والفساد والجريمة والإرهاب. ولعلّ ما عاشته بلادنا تونس، ما بعد الثّورة، هو خير دليل على ذلك.

وأخيرا، لا بدّ من التّذكير بأنّ لا استعمار مباشرا أو غير مباشر إلّا وله قاعدة داخليّة تتمثّل في شرائح طفيليّة تابعة له وأحزاب وجمعيّات ومنظّمات ومخابرات تعمل على التّخريب وتأبيد السّائد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *