Search
Close this search box.

بين وحدة الصف وضياع السلطة

بين وحدة الصف وضياع السلطة
بل هي سلوك سياسي ناضج. وإلا، فإن الحديث عن "المخططات الخارجية" لن يكون أكثر من محاولة بائسة لتبرير سقوط لم يكن حتمياً، لولا أن أهله صنعوه بأيديهم...

منذ أكثر من عشرين عاماً وشيعة السلطة في العراق يتقاسمون النفوذ ويتناحرون عليه، منشغلين بحسابات السياسة الضيقة، غير مدركين أن عدوهم الحقيقي ليس في أروقة المكاتب ولا في الكراسي المتحركة بين هذا الحزب وذاك، بل في الانقسام الذي ينهش جسدهم السياسي ويفتح الأبواب لغيرهم ليعيدوا رسم خارطة الحكم وفق مصالحهم.

يُقال اليوم إن هناك مخططاً لسحب رئاسة الوزراء من الشيعة بهدوء وسلاسة، وأن التحالفات تُرسم بدقة لإعادة تشكيل المشهد السياسي. ولكن، هل كان هذا ليحدث لو أن الشيعة السياسيين كانوا على قلب رجل واحد؟ هل كان أحدٌ ليجرؤ على سلبهم ما يعدونه استحقاقاً إن كانوا متماسكين، متفقين، واضعين مصلحة جمهورهم قبل مصالحهم الشخصية والفئوية؟

الحقيقة التي يجب أن تُقال، مهما كانت مرارتها، أن من يُفرِّط بحقوقه لا يحق له أن يلوم الآخرين على استغلال فراغه. ولو كان شيعة السلطة متحدين، مخلصين لقضيتهم كما يُفترض، لما احتاجوا إلى حملات توعية لإقناع جمهورهم بأهمية المنصب، فالأفعال أبلغ من الكلمات، والإنجازات وحدها قادرة على إسكات الشائعات، لا الخطابات الرنانة.

نعلم أن الشيعة ليسوا الوحيدين في الحكم، ومع ذلك، فإنهم يتحملون الوزر الأكبر منه. الأطراف الأخرى مستعدة للتعامل مع الأجنبي والتآمر معه ضد الشيعة، ولو كانوا قد عملوا بأمانة ونزاهة وبلا صراعات داخلية تستغل من قبل من يريد إسقاطهم، لما كان الوضع على ما هو عليه اليوم. إن دعم رئيس الوزراء والتكاتف معه لتحقيق الإنجازات التي تلامس حياة المواطن هو السبيل الوحيد لإعادة إحياء الثقة بين الجمهور والعملية السياسية التي باتت تُرى كعبء أكثر من كونها أداة للإصلاح.

اليوم، تُرفع شعارات التخويف من “المؤامرة” وكأنها تبرير لعجز السياسي الشيعي عن إدارة البلاد. ولكن، أليس الأجدر بدلًا من التحذير من المؤامرات، أن يُسأل لماذا فشل الشيعة في تقديم نموذج حكم ناجح رغم امتلاكهم للسلطة طوال هذه السنوات؟ أليس الأولى أن يُسأل: لماذا أصبح الشارع الشيعي غير مكترث بمصير المنصب، وكأنه فقد الأمل فيمن يمسكون به؟

ومع ذلك، لا يمكن إنكار ما تحقق أخيراً من إنجازات على مستوى التنمية والاستثمار، ونهضة واعدة بدأ الشارع العراقي يتلمسها بوضوح. هذه الإنجازات، رغم تأخرها، تثبت أن الفرصة لم تُهدر بالكامل، وأن بإمكان العراق السير نحو مستقبل أكثر استقراراً وازدهاراً إن توفرت الإرادة السياسية الحقيقية التي تُغلِّب المصلحة العامة على المصالح الضيقة. لكن هذه المكتسبات ستظل مهددة إن لم يتعلم السياسيون من دروس الماضي، وإن لم يدركوا أن نجاحهم الحقيقي لا يكمن في كسب جولة انتخابية، بل في بناء دولة قوية تحمي حقوق جميع أبنائها.

الوضع الآن في المنطقة لا يتحمل مزيداً من التشرذم والتفكك، ويجب الضغط على النفس بشدة، وعلى الآخرين كذلك، للوقوف صفاً شيعياً واحداً، فالمخطط واضح والعدو يعلن أن الشيعة هم العائق الوحيد أمام تنفيذ مشاريعه. القادة مطالبون اليوم بأن يضغطوا على أنفسهم وأحزابهم وجماهيرهم، وأن يوقفوا أي نشاط أو خطاب معارض، حتى لو كانت النية الإصلاح، فليس هذا وقته إطلاقاً. مثل هذه النقاشات يجب أن تبقى في الغرف المغلقة، لأن المعركة اليوم ليست معركة انتخابات وأموال، بل معركة وعي وصدق.

لقد آن الأوان أن يفهم الجميع أن السلطة لا تُحمى بالتحذيرات، بل بالإنجازات، وأن الوحدة ليست شعاراً، بل هي سلوك سياسي ناضج. وإلا، فإن الحديث عن “المخططات الخارجية” لن يكون أكثر من محاولة بائسة لتبرير سقوط لم يكن حتمياً، لولا أن أهله صنعوه بأيديهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *