يشهد العالم تحوّلات عميقة: منها تشكّل أقطاب دوليّة مناوئة للهيمنة الامبرياليّة الغربيّة ولسعي دول عديدة في أفريقيا وأمريكا اللاّتينيّة إلى استرجاع سيادتها والقطع نهائيّا مع الدّوائر الرّأسماليّة العالميّة. كما يجري فرز واضح بين قوى ناهضة تحاول بناء اقتصاديّتها الوطنيّة والتّحكّم في مواردها الطّبيعيّة والتّخلّص من قيود سياسات البنوك العالميّة.
ولعلّ حرب أوكرانيا والحرب الجارية حاليّا على غزّة والضّفّة الغربيّة قد كشفتا بما لا يدع مجالا للشّكّ عنصريّة الدّول الغربيّة وتوجّهاتها الاستعماريّة الجديدة والقديمة وزيف شعارات الدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان والحريّات الّتي ترفعها وتستثمرها ضدّ الأنظمة الوطنيّة في العالم. فالدّيمقراطيّة في هذه البلدان من دون أيّ مضمون اقتصاديّ واجتماعيّ، بل هي فتات حريّات شكليّة تفتقر للعدالة الاجتماعيّة إلى حدّ يمكن معه توصيف هذه الدّيمقراطيّة الزّائفة بأنّها ديمقراطيّة طبقيّة قائمة على هيمنة البرجوازيّة العالميّة. فلا تمنح لشعوبها سوى حريّة الصّراخ. كما أنّها تقوم في الجوهر على القمع متى حاولت الفئات الشّعبيّة أن تحتجّ على تفقيرها واستغلالها وتردّي أوضاعها المعيشيّة.
كما يتّضح اليوم بأنّ الوسائط التّقليديّة من تمثيل برلمانيّ وأحزاب لم تعد مواكبة لتطلّعات الفئات الشّعبيّة في العالم من أجل إرساء الدّيمقراطيّة الاجتماعيّة والعدالة والتّنمية. وهو ما أدركته بعض القوى التّقدّميّة من أنّ الشّكل التّمثيليّ الحاليّ لا بدّ أن يتغيّر بنموذج شعبيّ تمثيليّ حقيقيّ يكون فيه القرار للقواعد الشّعبيّة الواسعة.
وفي هذا الإطار فإنّ القضيّة الفلسطينيّة بتداعياتها السّابقة والحاليّة قد برهنت على أنّ أمريكا هي العدوّ الأوّل للشّعوب، وأنّ الكيان الصّهيونيّ هو مجرّد بؤرة استعماريّة لتنفيذ مخطّطاتها، وأنّ الدّول الغربيّة ولاسيّما الأوروبيّة هي مجرّد توابع للولايات المتّحدة الأمريكيّة. إضافة إلى أنّ المنظّمات العالميّة كمجلس الأمن والأمم المتّحدة وغيرهما هي كيانات ضدّ تحرّر الشّعوب وتقرير مصيرها وسيادتها على أوطانها واختياراتها السّياسيّة.
أمّا شعارات حقوق الإنسان والدّيمقراطيّة فهي مجرّد كذبة متى تعلّق الأمر بالحقّ الفلسطينيّ خاصّة أو بمحاولات الأنظمة الوطنيّة في العالم التّحرّر من الهيمنة الاستعماريّة. كما أنّ تلك الشّعارات أصبحت وسيلة للتّدخّل في شؤون الدّول في محاولة لمصادرة قراراتها السّياديّة والتّدخّل لإسقاطها أو حصارها اقتصاديّا وتجويعها من خلال تدميرها من الدّاخل بفضل ما زرعته تلك الدّول من أحزاب وجمعيّات تنفّذ مخطّطاتها تحت مزاعم غياب الدّيمقراطيّة وتردّي أوضاع حقوق الإنسان وهلمّ جرّا…
والجريمة اليوم في غزّة هي على غاية من البشاعة والفظاعة تشي بانعدام الضّمير الإنسانيّ وبكشف فاضح للعنصريّة والهيمنة الاستعماريّة من قبل أمريكا والغرب عامّة. ولعلّ ما يروّجه إعلام هذه الدّول من تمثيل فصائل المقاومة الفلسطينيّة بتنظيم داعش وتصويرها على أنّها منظّمات إرهابيّة خير دليل على أنّ الكيان الصّهيونيّ هو جزء لا يتجزّأ من الغرب وأمريكا.
وهي أيضا تعرية أخيرة للأنظمة العربيّة الّتي تحكمها برجوازيّات طفيليّة ريعيّة في علاقة عضويّة مع النّظام الرّأسماليّ العالميّ. وبالتّالي فهي أنظمة ميؤوس منها، ولا يعوّل عليها إطلاقا.
إنّ المقاومة الفلسطينيّة، وهي تخوض حرب تحرّر وطنيّ ضدّ العدوّ الصّهيونيّ، تعرّي الآن سوءة الدّيمقراطيّة الغربيّة والأمريكيّة بأنظمتها وإعلامها ومنظّماتها الإنسانيّة. وتكشف بأنّ طريق تخلّص الشّعوب من الهيمنة الرّأسماليّة العالميّة هو الانحياز إلى محور الشّرق كنهج بديل ومتاح ممثّلا في الصّين وروسيا وبعض دول أمريكا اللّاتينيّة وأفريقيا وكوبا وكوريا الشّماليّة وإيران وذلك من أجل خلق توازن في هذا العالم يكبح جماح النّظام الرّأسماليّ العالميّ.
إنّ الفرز الحاليّ واضح بين يمين امبرياليّ استعماريّ، وبين قوى الرّفض ممثّلة في بعض الأنظمة الوطنيّة واليسار العالميّ وما تبقّى منه من رائحة في بعض البلدان… وستظلّ فلسطين أسطورة هذا العصر.